حين تزورك الديستوبيا

 

* نُشرت هذه الشهادة بعد 6 أيام من كارثة درنة سبتمبر 2023، في ملفّ خاصّ بمجلة أخبار الأدب



ربما تُطلّ شرفة منزلك على منظر اعتدت عليه حتى بتّ تتوقع محتوى شرفة الجار صباحًا في العمارة المقابلة، تتوقّع في ساعة معينة سماع صوت حصائر الدكاكين ترفع، وأصوات الباعة الجوالين تصدح، أنت تعرف جيدا ما الذي ستقع عينك عليه حين تشرع ستائر نافذتك، حتى صرت لا تمعن النظر كثيرًا، بل قد تتجنب ذلك، فقد اعتدت المنظر. فهل تتخيّل أن تصحو ذات صباح على سكون مخيف يدفعك نحو الشرفة، فتفاجأ بأن الشارع ليس الشارع، ولا تجد شرفة جارك المقابلة، فقط مسطحات طينية، ومن بعيد، يلوح لك جامع كانت تحجبه عشرات العمارات والأبنية المقامة بينكما. هذا ليس ضربًا من الخيال العلمي، ليس مشهدًا افتتاحيًّا لرواية ديستوبية؛ هذا ما رآه الناجون في مدينة درنة الليبية، فجر الإثنين، الحادي عشر من سبتمبر 2023، بعد ليلة اختلط فيها صوت الأمطار بجريان السيول وصراخ النساء والأطفال، وقعقعة هياكل السيارات، تتخبط ببعضها وتتلعثم هي الأخرى، فتختلط أضواءها بعد انهيار منظومتها الكهربائية.

لسبب ما، كنّا نحمل نحن الليبيون، يقينًا بأن الله وقانا من الكوارث الطبيعية التي لطالما هزت عروش طمأنينة دول مجاورة أخرى، ومع الحروب المتتالية، نشأ عندنا شعور جماعيّ غير معلن عنه، بأن نصيبنا من الكوارث، هو الحروب والفساد السياسي، والشقاق الاجتماعي الذي نتج عنهما، أي "كوارث بشرية".

ولكننا تعلمنا الدرس، فالأرض لله، والماء لله والريح لله، ورُبّ رطوبة في بحر يبعد عنك آلاف الأميال، تعدّ لك قبرك على بخار هادئ. اعتقدنا أن الرياح العاتية ستهدأ حين تصل شواطئنا، واعتقدنا أن ما ينتظرنا مجرد شوارع غارقة، وعطلة لعدة أيام حتى يتم شفط أو تبخر البحيرات الجديدة، وهذا بالفعل ما حصل في مدن النصف الغربي من ليبيا، غير أن تلك الرياح استمدتْ قوتها من بحرنا، وطقسنا الحارّ، تغذتْ جيدًا، وكان موعد النصف الشرقي مع وجه آخر لم يعتادوه، وبرغم التحذيرات التي تكفلتْ بها بعض الصفحات التي لا تتبع الدولة، ورغم التحذيرات الخجولة التي بدأنا نسمع بها (بعد خراب برقة)، لم يتم الاستعداد للكارثة كما ينبغي لها، لم تتم أي عمليات إخلاء، وكعادتنا نحن الليبيين، وكّلنا أمرنا لله، نسينا أن الأخذ بالأسباب لا يعني دائمًا أن تلزم بيتك، أحيانا ينبغي عليك أن تخرج منه، فهل الاختباء في البيوت عادة أكسبتها لنا الحروب؟

تفاصيل ما حصل علميًّا تم شرحها باستفاضة من قبل المختصين، وتفاصيله سياسيًّا واقتصاديا واجتماعيا أيضًا، ثمّة كرة الإثم التي تُقذف من طرف إلى آخر، ثمّة احتباس حراريّ وتغيّر مناخي، ثمة فساد إداري وبنية تحتية متهالكة، ثمة دولة منقسمة إلى حكومتين، واحدة يعترف بها الجسم التشريعي ولا تملك إلا الحبر الذي تطبع به قراراتها، وحكومة أخرى لا يعترف بها الجسم التشريعي فيما تمارس عملها دوليًّا، كعشيقة السرّ، تتزيّن من الخارج، فيما تخفي الخراب من الداخل. وفوق كل ذلك، ثمّة انعدام للخبرة في مواجهة كوارث بهذا الحجم.


بدأت الصدمة عند وصول الإعصار والسيول إلى مدينة البيضاء، بعد أن تجاوزت مدينة بنغازي بأضرار متوسطة عززت من حالة الطمأنينة، إذ لم تتجاوز إسقاط بعض اللافتات، وانتزاع بعض الأشجار، وإغراق كثير من الشوارع، وأضرار في الممتلكات، أما في البيضاء فقد بدا المشهد مختلفًا لنا، وانتابنا الشك إن كان في الأمر خدعة حتى بدأنا نسمع عن ضحايا، وانجرافات للشوارع والأبنية، بدأت حالة الهلع رسميًّا فجر الإثنين، من درنة الزاهرة، بعد ليلة مريرة، وجد فيها سكان درنة أنفسهم وحيدون في مواجهة الموت الجماعي. ثم انتقلت إلى مدن وقرى أخرى، بعضها طُمر تماما تحت الوحل، وحين أقول تماما، فأنا أعني البيوت بساكنيها، أما ضحايا درنة فقد كان موعدهم مع الطوفان ثمّ البحر، إذ انتهى عمر السدّيْن اللذيْن يحميانها هي الواقعة على ضفتيْ وادي درنة، وانتهى معه عمر ما يزيد عن 3 آلاف نسمة، دُفن البعض تحت البيوت، فيما غرق البقية إما في مجرى الوادي أو في قاع البحر، هذا غير آلاف أخرى من المفقودين.

ليس من السهل عليّ كتابة مشاعري إزاء ما حدث، مضى على هذه النكبة غير المسبوقة في تاريخ البلاد 6 أيام، ولا نعرف بعد متى سنتعافى منها، تمتلئ صفحاتنا كما امتلأت قلوبنا بالقلق، والبشرى أحيانا بأخبار الناجين، وكأننا نعيش حالة هستيريا جماعية، بين فاقد لأحبته، وآخر عاجز عن تقديم المواساة التي يظن أنها كافية، فكيف تكون المواساة كذلك إن لم تكن بالعناق! وكيف يمكننا أن نعانق مدينة بأسرها؟

6 أيام تدحرجت فيها مشاعري وجُلّ الليبيين، بين الحزن، والغضب، والخوف، وحين أقول جلّ، فأنا أستثني بالطبع البرلمانيين والحكوميين والوزراء وكل من تقلد أو يتقلد منصبًا في هذه البلاد المكلومة، ولو شعر أحدهم بنصف ما نشعر به لقدّم استقالته فورًا.

الحزن على مصير تلك المدن وأهلها، إذ لكل قرية ومدينة خصوصية تاريخية أو اجتماعية او ثقافية، لعلّ أبرزها جامع الصحابة الذي يقابل مقبرة عددًا من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبور لم يحرك سكونها شيءٌ منذ الفتح الإسلامي للبلاد، حتى فجر الحادي عشر من سبتمبر 2023، إذ لم يكتفِ الفيضان بالأحياء فقط. 

الحزن على الذين نجوا بأجسادهم واكتشفوا أن أفئدتهم راحت مع عائلاتهم الصغيرة والكبيرة معًا، مخلفين فجوة كبيرة في صدورهم.

والغضب على التأخر في الإمداد، والتأخر في التغطية الإعلامية، الغضب من التجاهل العربي والدولي في الثمان وأربعين ساعة الأولى، والأكثر من كل ذلك، الغضب إزاء الفساد الذي رخّص دماء الليبيين إلى هذا الحدّ، وتسبب في تضاعف حجم الكارثة... فالكوارث الطبيعية تتضاعف إن أضفنا إليها الفساد المالي، وتاريخ حديث جدًّا من استخدام الأسلحة الثقيلة. الغضب أيضًا على المتاجرين السياسيين بالضحايا، فهذه فرصة مناسبة جدا للمزايدات، ولكسب انتخابات قد تأتي وقد لا تفعل.

أما الخوف، فهو من المستقبل، كيف يتخطى الناجون ما شهدوه في تلك المدن والقرى؟ هل ستستمر هذه "الفزعة" التي هبّت لنجدة المدن الشرقية من كلّ قرى ومدن ليبيا؟ هبّة لم تشهد البلاد مثيلا لها حتى خلال أحداث النزوح في عام 2011.

والخوف من النسيان، كلنا يعرف أن "آفّة حارتنا النسيان"، إذ جمعتْ الكارثة قلوب الليبيين المشتتة منذ أحد عشر عامًا، جمعت سواعد من كانوا يتقاتلون بالأسلحة الثقيلة منذ سنوات، بل منذ بضعة أسابيع مضت! لم يعد أحد يسأل: المتوفى يتبع أي توجه سياسي أو ديني؟

والخوف أيضًا أن تمرّ كارثة بهذا الحجم دون محاسبة، دون فيضان آخر يغرق كل الأجسام السياسية والتشكيلات المسلحة التي استنزفت موارد البلاد ومصّت دم العباد خلال السنوات الإحدى عشر الأخيرة، الخوف من السراق ذوي ربطات العنق؛ تجار الأزمات، ولجان التعويض والحصر، والسياسيين وعمداء البلديات و.... تطول القائمة، تطول وتطول فتتجاوز قوائم ضحايا الكارثة، بعد أن صار الناجون هم الاستثناء، والقاعدة هي الموت.

لا أريد أن تبدو شهادتي كئيبة وداعية للتشاؤم، ولكني أرجو فقط أن تكون تذكرة مستقبلية، لفئة بعينها، أولئك الذين كانوا يحملون السلاح في وجوه أبناء عمومتهم وأنسبائهم وأصهارهم وأخوالهم؛ كيف يمكنك بعد الطوفان العظيم، وبعدما رأيت، أن تحمل السلاح مجدّدًا؟ كيف يمكنك أن تعود بيدقًا من جديد؟

------------------

** الصورة منتشرة، ولم أعرف لمن تعود حقوقها

تعليقات