*نُشر على فاصلة 2020
نحن لا نتصرف على سجيتنا أثناء الحرب، بعضنا ينال من قلبه الدمار، وبعضنا يبدي صلابة تعينه على البدء مجدّدًا مرارًا وتكرارًا. يُعدّ فقد الأرواح الفجيعة الأولى فيها، تليها فجيعة أخرى؛ وهي فقد البيوت التي آوت أرواح سكانها، وصارت وعاءً لذكرياتهم؛ ونختصر كل هذا بكلمة واحدة: نزوح.
بيوتنا إذًا –وللنساء تحديدًا- هي فرد من أفراد الأسرة، وإن كانت أثرى النساء تلك التي تتوسد ذكرياتها لا مقتنياتها، فربما يمكننا اعتبار الليبيات أثراهنّ في العالم؛ النازحات منهنّ تحديدًا، فارتبط ثراؤهن -للمفارقة- بخسارة بيوتهنّ… تبدو حكاياهن متشابهة، ولكنها ليست كذلك حين يتعلق الأمر بمواقفهنّ أمام هذه المحنة.
>> فاقد الشيء يعطي أكثر!
عاشت ابتهال باكير -25 عامًا وطالبة في كلية الطيران المدني- حياة عادية هادئة، حتى نال منها النزوح بداية الحرب الأخيرة، فخرجت وأسرة أخيها بما عليهم من بيتهم في "عين زارة"، قاصدين أول مأوى تمكنوا من استئجاره، وهو عبارة عن مرآب قديم للسيارات، حوّله مالكوه إلى ما يشبه المنزل بغرفة واحدة ومطبخ وحمام، ولكنه بدون أية نوافذ أو تهوئة، كان الجو صيفًا، ولك أن تتخيل عزيزي القارئ الوضع الصعب الذي وجدوا أنفسهم فيه.
عرفتها قائدة للفرقة الأولى، زهرات فوج أبو سليم، وقائدة الفوج للجانب الإرشادي، انضمّت أسوة بقادة الفوج خلال الشهور الأولى إلى غرفة إغاثة النازحين، رأيتها تمضي جُلّ أوقاتها معهم في مدرسة بدر الكبرى، بعد أن وفروا لهم التموين اللازم، والبيئة النظيفة والملائمة -على قدر استطاعتهم- لمكوث عائلات النازحين. أثارت دهشتي، هذه المرأة التي تعاني النزوح، تواسي غيرها من النازحين وكأنها في غير حاجة لمن يواسيها! تقول ابتهال:
"التحقت بغرفة إغاثة النازحين منذ أول نزوحنا، بمدرسة بدر بمنطقة أبو سليم، وبالرغم من نشاطي المستمر، إلا أنني مازلت أشعر بالعَوَز لبيتنا، وبتخلي جميع الناس عنَّا، أعتقد أنه شعور يتشاركه ويفهمه كل من مر بتجربة النزوح، خصوصًا إن كان ينعم بحياة كريمة فيما مضى، ليستيقظ يومًا وقد سُلب منه كل شيء… تأثرت بعملي في إغاثة النازحين، وبقصص النازحات ودموعهن، وبالرغم من محاولاتي الجادة لمسح هذه الدموع وللتخفيف عنهن، إلا أنني كنت أنا الأخرى أعاني في كبح دموعي كل ما وجدتني وحيدة في المكتب أو الغرفة. كان صعبًا جدًا أن أطبطب على هؤلاء النازحين وأنا نازحة مثلهم أيضًا."
ورغم هذه التجربة، بالإضافة إلى تعثرهم ماديًّا خلال الفترة الأولى من نزوحهم، وتعثر دراستها وتوقفها- بسبب وقوع الكلية في منطقة السبيعة-، تقول ابتهال بأن تجربتها في إغاثة النازحين، بالإضافة لعزفها على آلة "الساكسفون ألتو"، شغلاها عن التفكير في حالها، وساعداها في تخطي هذه المحن نفسيًّا.
ليس هذا فحسب، فابتهال لم تجلس واضعة خدها على يدها خلال هذه الفترة من حياتها، إذ طيلة فترة نزوحهم- الممتدة إلى اليوم- استغلتها في الانضمام إلى عدة منظمات إغاثية، وعزيمتها الشديدة مكّنتها من إعانة الناس بمختلف الطرق، خاصة مرضى السرطان، والمرأة والطفل، عن طريق جمعيات عديدة انتسبت إليها، والحملات المقامة من خلالها، ودُعيتْ لقاء همّتها العالية لورش عمل دولية.
أما فيما يتعلق بالشهادة الجامعية، فقد حلت ابتهال مشكلتها بانتسابها للجامعة المفتوحة، وفوق كل ذلك، فقد واصلت اجتماعاتها بزهراتها وتعليمها إياهن دروس الكشفية إضافة للتوعية الدينية والأخلاقية والبيئية، وتحرص على متابعتهن حتى خلال الحجر الصحي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ملهمة بذلك لا فقط الزهرات، بل حتى أولياء أمورهن… ولكنها تستدرك في النهاية:
"كما أسلفت، أبقتني كل هذه النشاطات بحالة جيدة والحمد لله، ولكن هذا لا يعني أنني لا أفتقد بيتنا وغرفتي وخصوصيتي، أشتاق إلى سريري وخزانتي ومكتبتي، وكتبي التي أشعر بالندم لتركها ورائي، وإلى صور والداي -رحمهما الله - وصوري عندما كنت طفلة. أشتاق إلى العديد من التفاصيل، وإلى القصص التي يبوح بها كل ركن من أركان المنزل، إلى قهوة المساء في الفناء... لا أنفك أفتقد غرفتي ووقتي الخاص في مشاهدة التلفاز أو القراءة."
وتؤكد: " الانضمام لغرفة الطوارئ لإغاثة النازحين، هذا العمل الخيري العظيم كان من أفضل الأشياء التي قمت بها على الإطلاق!". كيف للنزوح أن يمكن لابتهال هذا الحجم من العطاء!؟
>> القوة بعد الخمسين
أما السيدة نعيمة، فقد نالت منها محنة النزوح وهي تقارب الستين من عمرها، ونقلتها من بيت واسع وأرض رحبة في منطقة "الخلة"، إلى استوديو ضيق، وبدّل حالها من ربة بيت إلى سيدة عاملة. في سنّها هذا، يفكر الإنسان الذي يعيش حياة طبيعية عادة في تزويج أبنائه ورؤية أحفاده، ولكن نعيمة فوق هذا تفكر في أمور شتى أخرى، وتُصِرّ: "القلب مازال شباب".
وكما يُقال في الهموم أنها تأتي مجتمعة، ونزوح نعيمة كان القشة التي لم تحتملها: "موت زوجي- الذي أحببته جدا - قصم ظهري، والنزوح زاد همي… ضربتان موجعتان، ولا يمكنني أن أحكي لك كم ذرفت من الدموع ومازلت." هذا رمضان الثاني الذي يمر عليها وعلى أسرتها بعيدًا عن بيتهم الذي لم يعرفوا عنه شيئًا منذ خروجهم في السادس من أبريل 2019، وحتى تاريخ هذا التقرير…
"مأساة ولا أحد يحس بنا! أول نزوحنا تعبت، انتقلت بين الأمكنة، أحسست بالتشتت وعدم الاستقرار. رمضان الماضي قضيت كل أسبوع منه في مكان… أصبحتُ هشة سريعة البكاء، حزينة ولم يعد يفرق معي شيء في الدنيا… ابني أصبح عصبيًّا، ولم يعد راغبًا في مواصلة دراسته، أخته كذلك نفس الشيء… كنا في صدمة موت الأب وجاءت صدمة النزوح، يعني أصبحنا في متاهة ودوامة، حاولت أن أكون قوية وقتها؛ لكن كانت المحنة أقوى منى..."
>> هل ما لا يقتلك فعلًا يقوّيك؟
وفاة السند والرفيق، ومن ثم محنة النزوح، كيف لسيّدة شارفت الستين التعامل مع هكذا فواجع؟ أم أنها لم تفعل والعزائم الحديدية محلّها السينما فحسب؟ يبدو تساؤلا حالمًا لا يليق بثقل المُصاب، كانت أقوى من الاستسلام لهذه الحالة، واستقرت في استوديو رفقة ابنها وابنتها بعد انتقالها بين عدة بيوت لعدة أشهر منذ بداية شهر رمضان الماضي. تشعر نعيمة بالغربة الشديدة في سكنها الجديد، وبالمسؤولية تجاهه كأمانة، لأنها لا تملكه، إنما ضيفة فيه فقط.
بدأت تعمل- وللمرة الأولى منذ زواجها - في روضة أطفال كي تعيل أسرتها خاصة مع تردي وضع السيولة في بلادنا، وبدأت في محاولة إنقاذ نفسية أبنائها… تقول نعيمة عن موقفها المقاوم لحالة الاستسلام:
"الظروف أجبرتْني أن أكون قوية، والصدمات والمواقف في حياتي زادتني قوة والحمد لله، وهذا فضل من ربي لأني في البداية تعبت جدا! حاولت كثيرًا إخراج أبنائي من حالة الحزن، حاولت وحاولت... والحمد لله استطعت مساعدتهم، فأكبر همي إسعادهم وتخفيف ألم الفقدين عنهم؛ فقد أبيهم الذي لايعوض لأنه كان شخصًا مميزًا جدًّا، وألم النزوح، والحمد لله نجحت... لكني لم أستطع التغلب على حزني بيني وبين نفسي… علمني النزوح أشياء كثيرة؛ عرفت معادن الناس وتعلمت دروسًا لا يمكنني نسيانها، لا يمكن نسيان الناس الذين ساندوني في محنتي مثلا."
رغم هذه النقلة العظيمة في مرحلة حرجة من عمرها، رغم اشتياقها لبيتها، لمملكتها الصغيرة كما تقول واصفة غرفتها، واشتياقها أيضًا إلى نافورتها التي ارتبطت بها ذكريات قهوتها رفقة فقيدها، تقرأ أو تكتب بعض الشعر معه إلى جوارها، رغم كل ذلك، فإن نعيمة اختارت صورة الأم القوية، المكافحة في مواجهة ما آلت إليه الأمور.
>> "التهجير حرمني الدراسة؛ ولكنه علمني أكثر"
إيناس علي، 26 عامًا، نزوحها وأسرتها يعود إلى حرب المطار عام 2014م، نزوح تحوّل إلى تهجير، خرجتْ وأهلها قاصدين مدينة أخرى، لم يخطر ببالها أنها لن تعود مجددا لفنائهم المزروع بالورود والنعناع، ولم يخطر ببالها أنها ستجلس ثلاث سنوات لاحقة دون دراسة؛ فمجال تخصصها غير متاح، "توقفت عن الدراسة بعد تهجيرنا؛ ولكني خلال تلك الفترة تأكدتُ أن ما تعلمته بنفسي ذاتيًّا، ومن العلاقات الجديدة التي اكتسبتها، علمني ما لا يمكن لأي جامعة ليبية أن تفعل…"
صراع نفسي واجتماعي عانت منه إيناس خلال السنوات الثلاث تلك، فتشتت أسرتها خلال فترة نزوحهم الأولى- وقبل أن يتحول إلى تهجير- في بيئة ووسط لم تعتده، وبُعدها عن والدتها التي كانت تعاني من مشاكل صحية، زد على ذلك تعرضها لتدخلات اجتماعية سافرة في حياتها الشخصية، كل هذا دفعها لتمني الموت، بل لطلبه…
خلال تلك المرحلة الصعبة، شاركت إيناس في حملة محلية موسعة لدعم القراءة، فكانت القراءة أول طوق نجاة تتشبث به. ومنها انطلقتْ إيناس ميدانيًّا، فنظّمتْ معرضًا ثقافيا في إحدى المدارس العامة بالمدينة؛ تلك كانت البداية فقط، "حضرتُ ورش عمل، وتدريبات، أول ورشة عمل لي كانت عن دور المرأة في حل النزاعات، ثم عملتُ معلمة في مركز للغة الإنجليزية، وبدأت بعدها في تعليم اللغة الإنجليزية للصغار في بيوتهم، ونظمتُ في المدرسة العامة دورات تعليمية مختلفة". وعن دراستها؛ تقول إيناس بأنها انتسبت الآن إلى الجامعة المفتوحة تدرس اللغة التي تحبها.
اليوم تتذكر تلك الفترة معتزة بأسرتها التي كانت حاضرة لمساندتها في قراراتها الشخصية، وتؤكد: "أنا لستُ حزينة حاليًّا على كل ما مررت به، إذ أني أملك القدرة على مواجهة أي شيء الآن".
"تعلمك الحرب أشياء كثيرة… تنتظر و تتحمل لأن البديل أن يختل توازنك، باختصار تجن." ~رضوى عاشور
أشياؤنا تكتسب أرواحًا مع تقدمها في العمر معنا، هكذا يطيب لي تفسير الأمر في أبسط صوره. تأتي الحرب وتنال منها بالجملة، فلا يبقى أمامك إلا الصبر، أو الجنون، واختارت نساء هذا التقرير الصبر، بل اختارت أن تُقدّم دروسًا فيه، فماذا عنك؟
*في الصورة: قايدة ابتهال وبعض زهراتها
إعداد وكتابة | كوثر الجهمي
تحرير | أميمة الكمشوشي . أميرة الكلباش

تعليقات
إرسال تعليق