الروائية عائشة ابراهيم: كوثر الجهمي صانعة الفخاخ العجيبة



هكذا وجدت نفسي، وبتواطؤٍ مني، قد وقعت في فخ رائع نصبته الروائية كوثر الجهمي عبر روايتها (عايدون) الفائزة بجائزة مي غصوب للرواية 2019. أخذتني في تجربة متميزة، طيلة صفحات الرواية المئة وسبعين، اتعقب خلالها شخصيتين فريدتين، بطلتا الرواية: السيدة الإعلامية غزالة الكريتلي، وابنتها الشابة (حسناء)، وتسرد الرواية أحداثاً عاشتها هذه الأسرة الصغيرة بعد عودة الأم من مهجرها (سوريا) لتعيش شعور اغتراب جديد في بلد يشهد تحولات الحرب وصراع النفوذ والايدلوجيا، ثم تجد الأسرة نفسها مجبرة على الهجرة من جديد بعد أحداث عنف عاشتها طرابلس في العام 2014، ومحاولة اختطافٍ تعرضت لها حسناء بسبب نشاطها الإعلامي المناهض للتشكيلات المسلحة.
الرواية اعتمدت على تقنية تعدد الأصوات في السرد، من خلال صوت الأم وصوت الابنة، إضافة إلى صوت الجد وصديقة الابنة، لكن المدهش حقاً أن تلك الأصوات تصلك حارة ونابضة، وكأنك في حالة تلقّي اعترافات، وتجد نفسك أمام بوح حقيقي وتجربة ناضجة وعميقة تناقش بوعي مفهوم الاستقلالية والتحرر والانفتاح على الثقافات والتجارب الإنسانية، تجعلك في حالة توحد مع الشخصيات، وتأخذك إلى تفاصيلها، بثقافة المرأة التي تعيش حياة مستقلة، وحالاتها الإنسانية كأنثى وأم وأرملة وسيدة مثقفة مكتظة بالمشاعر والرؤى والأفكار، وكذلك شخصية الابنة التي تعبّر عن تيار شبابي مقاوم ومتمرد ويرتكز على ثقافة مدنية ورؤية منفتحة على الحياة.
(عايدون) رواية استطاعت أن تطرح بحبكة جميلة قضية العائدين من المهجر، وكيفية تعايش هذه الأسرة في مجتمع مغرق في تقليديته، وناقشت قضايا التحولات التاريخية وتجربة الاغتراب ومعاناته ومفهوم الانتماء وصراع الهويات، والفروق الحضارية، وفلسفة الاختلاف والنمطية والاستثناء، وأيضا الدوافع النفسية وعلاقتها بالسلوك ومستويات الوعي الجمعي والأخلاق.
اللافت في الأمر أنه مع كل صوت من أصوات الرواية (الأم والابنة) أشعر بحالة من التماهي كأنني فعلا استمع إلى صوت تلك الشخصية وتتجسد أمامي صورة غزالة الكريتلي بجمالها المتجذر من أصول يونانية، ببحة صوتها من أثر تدخين السجائر، بأرستقراطيتها وهيبة حضورها. وبين ملامحها وصوتها وأفكارها، تسيطر عليّ فكرة أنني حقاً أراها تطل بوجهها من بين الصفحات، أتعرف على أسرارها، وألاحق معها هواجسها وأحداث حياتها المتشابكة، وهنا يأتي الفخ الحقيقي، حين استعيد واقعيتي وأتذكر أن غزالة الكريتلي هي شخصية روائية صنعتها كوثر الجهمي، وأن كل هذه التجربة الثقافية والإنسانية العميقة التي رافقت غزالة، هي من صنع خيال كوثر الجهمي، وهي وحدها صاحبة كل هذه المناورات والمقاربات الفلسفية، هي وحدها صانعة هذه الحبكة المدهشة وفخاخها العجيبة.

تعليقات