*نُشرت على فاصلة 2018، ضمن حملة "عليك حق" للصحة النفسية"
أرضعته منذ عشر دقائق فقط، ويأبى إلا أن يبكي بحرقة استفزتني لرميه معي نحو الهاوية!.
وقفت بقدم واحدة على حافة شرفتي، بينما قدمي الأخرى تقف مترددة على الكرسي أسفلها، تأملتُ أضواء السيارات، تبدو صغيرة كطفلي الرضيع هذا، ترددت حيال إلقاء نفسي، ثم هرعت إليه، احتضنته قليلا، وقررت؛ سأرمي بنفسي وإياه وأنهي عذابنا معًا!.
لن يرانا أحد فالظلام يغطي الحي كما يفعل مع روحي، لن يسمعنا أحد فأصوات المولدات تصم الآذان، حملته بيمناي، واستندتُ باليسرى على الحائط، انحنيت قليلا للأمام وشعرت بالدوار، أنا أم سيئة لأني لا أعتني بطفلي جيدًا، أم سيئة تراودها أفكار مخيفة حيال إيذاء نفسها أو إيذاء طفلها.
تُحرّض عمتي ابنها على إتياني بشيخ، تقول له لربما التبسها جانّ ما في فترة نفاسها فهذا أمر وارد! يرد عليها: "ما في مرا جابت إلا هي؟ وخيرا ما صارلهاش هكي في بنتنا الأولى"، وفي تلك اللحظة تذكرت ابنتي التي قد تستيقظ من نومها في أية لحظة.
وبالفعل، اندفعتْ نحو حجرتي وهي تبكي خشية الظلمة اللهم إلا من إضاءة "لمبة الشحن"، تزداد نوبة بكائها شدة حين لا تجدني ولا تجد شقيقها الرضيع فوق السرير، خاطبتُ نفسي: "إما أن تفعليها الآن أيتها الفاشلة وإما فلا تحاولي مجددا"، اقترب صراخها من الشرفة، خشيت أن تشهد سقوطي وانا أحمل أخيها، فتتبعني! تلك كانت آخر محاولاتي الفاشلة، فاشلة أنا حتى في الانتحار.
"دلع نساوين"، هذا ما قاله زوجي لأمي حين بررت له مزاجي النكدي وخمولي وانقطاع شهيتي، أخبرته بأن هذا ما يُدعى بـ"وحم الحفرة"
"إياااه علينا عاد! وحم الحمل وعرفناه، ما عمريش سمعت بيه وحم المرا بعد الجياب!".
حاولت أمهاتنا شرح الأمر له، صبر حتى انتهاء فترة نفاسي فقد وعدوه بأن هذا النوع من "الوحم" سينتهي مع انتهائها، وانطلق بعدها وكأن صفارة الإنذار قد رنت، أعلن الحرب عليّ، أخبرني أنه سيربيني من جديد، وأنه ندم على تدليلي في سنوات زواجنا الخمس، لم يغفر هجري له، لا ولم يغفر إهمالي لمظهري ومظهر طفلينا وبيتنا، لم يفهم أرقي في الليل ونومي في النهار، لم يغفر خذلاني حين عاد للبيت دون وجبة غداء تنتظره، كنت أفقد تركيزي حرفيًّا ولا أميز في أي ساعة نحن!.
تطور الأمر، وبتُّ أرى كوابيس يقظة أشنق فيها نفسي، عرفتُ أن ما أعانيه خرج عن نطاق إرادتي، فجوة بمعدتي كنت أشعر بها يوميًّا، وكأني أسقط في هوة بلا قاع، شهرٌ كان كافيًا لدفعي نحو التفكير في السقوط الحقيقي، لعل ارتطامي برصيف عمارتنا ينهي رحلة السقوط الوهمية، ولكني فشلت عدة مرات، أي أم وأي امرأة أنا؟ أم غير قادرة على تحميم أطفالها دون أن ينال منهم الزكام، أم لا تتحكم في غضبها فترمي مشطها الخشبي في وجه ابنتها التي لم تنهِ عامها الرابع بعد! أم تبكي كل ليلة على طرف سرير تلك الصغيرة، أو على بطانية الرضيع، تستسمحهما وتسب نفسها في اليوم والليلة ألف مرة ومرة! امرأة ببساطة تشفق على زوجها وفي نفس الوقت لا تطيقه، لا ولا أطيق نفسي ولا أهلي ولا حتى ذريتي!.
زارتني عمتي بالأمس، قالت: "طوّل معاك وحم الحفرة يا بنتي، نجيبلك مية رقية أشربي منها وما تبزعيهاش زي المرة اللي فاتت، وراس صغيويرتك!".
"هذي مش حفرة يا عمتي، هذا بير قداش بنملاه شيش مية؟".
انهرتُ أمامها للمرة الألف، تأففتْ، اقترحتْ عليّ الذهاب إلى بيت أهلي نقاهة، "ماتفسديش حياتك بيديك راهو عندك صغار"، وهذا ما وافق عليه فورًا زوجي، وكأنه هو المعني بـ"النقاهة".
صباح اليوم، بعد انطلاقنا بالسيارة، شغّل راديو السيارة متجنّبًا فتح أي موضوع قد يفضي إلى شجار جديد، صادفتنا محطة كانت تذيع مقابلة مع طبيبة تتحدث عن "الصحة النفسية"، صدفة أو رحمة من الله أن تطرقتْ الطبيبة إلى أعراض الاكتئاب، تحدثتْ عن أنواعه، وبطريقة ما ربطت ما يحدث لبعض النساء خلال العام الأول من الولادة به، تحدثتْ عن هرمونات، وغدد، واستعداد مُسبق للمريضة، تحدثتْ عن أعراض ومضاعفات، ولوهلة شعرتُ بأنها تتحدث عني، والأهم من هذا؛ شعرتُ بأنها تفهمني، وانتابتني موجة ارتياح شديد حين علمتُ بأني لستُ وحيدة، وجدتُ نفسي أبكي مجددًا، ولكني بكيت لنشوة الراحة التي افتقدتها منذ أشهر، رمقني بنظرة لم أفسرها إلا حين قال لي: "آسف".
استدار بالسيارة عائدًا للبيت، ثم أكد لي: "علينا القيام بالكثير من الفحوصات والتحاليل، وإن تطلب الأمر اللجوء إلى معالج نفسي فسنفعل"
كانت مناسبة استضافة الطبيبة على المحطة الإذاعية هو "اليوم العالمي للصحة النفسية"، لماذا توجب عليّ انتظار هذا اليوم كي أفهم ما يحصل معي؟.
تعليقات
إرسال تعليق