مصالحتي مع رمضان




 

* نُشر على فاصلة 2017

هناك شيء ما سحري يرتبط بشهر رمضان..
حتى إن كنت غير مستعد لاستقباله، يفرض وجوده بلطف بالغ، كمجرى النهر الذي يخترق بلطف العوائق التي تعترض طريقه.

يوم “الموسم” وهو السابق لأول أيام الشهر المبارك، كنت في أسوأ حالاتي النفسية، صوت المدافع ورائحة البارود وأخبار الموت، جعلتني أفقد قدرتي على استنشاق تلك الرائحة المميزة التي تأتي مع رمضان، لا تسألوني أية رائحة، فهي رائحة لا علاقة لها بحاسة الشم! قد تكون استعدادًا نفسيًا يرتبط بروائح مختمرة في الذاكرة من رمضانات سابقة مررنا بها. هذا الاستعداد النفسي هو ما افتقدته منذ يومين، تمنيت أن يؤجل قدومه! لكنك لا تستطيع منع الزمن من التحرك!

جاء رمضان، ورغم أن المعارك كانت قد انتقلت لمنطقة سكني، ورغم شجاري المتواصل مع أبنائي للابتعاد عن النوافذ، ورغم انتفاضتي المتكررة في كل مرة أسمع فيها صوت قذيفة قريبة بينما كنت أقوم بلف “البراك” (الضولمة)، إلا أن رائحته أتت معه. نعم، شعرت بخجل شديد في حضرته من أن أستمر في حالة النكد، لقد أتى ودخل بيتنا وجلس معنا يذكرنا بحكاياتنا ومغامراتنا معا فيما مضى، قبل الحرب، وأثناءها وبعدها، وفي خضم حضوره لم تعد تهم الأخبار الحالية. بل إنني وجدت نفسي أمسك بأقلامي الملونة وأبرمج يومي في مفكرتي بسعادة غامرة، لا أعرف من أين جئت بها! 

رمضان قبل زواجي هو ما أحن له دوما، كان دراسة في النهار، مساعدة طفيفة لأمي قبل المغرب، ختمة أو ختمتين للقرآن الكريم، كوب حليب دافئ مغمسة فيه ثلاث تمرات، صلاة جماعية عائلية، تراويح وتهجد. رمضان كان صحن محلبية بالقرفة، وتخمة أندم عليها كل ليلة ثم أنسى ندمي في مغرب اليوم التالي! رمضان كان متابعة صلاة التراويح التي يؤمها السديس والشريم، وحرصًا شديدا على متابعتها إن كان الدور في دعاء الوتر للسديس. يالله كم كنا نعشق الاستماع لدعائه! رمضان في السنوات التي تسبق زواجي كان “باب الحارة” و “صالح الابيض” و”الشقيري”، أما بعد زواجي فتلك قصص أخرى

أول رمضان بعد زواجي كان الأفضل، ففي العشر الأواخر منه أصبحتُ أمًا!
ثاني رمضان كان الأسوأ، كان رمضان الثورة، رمضان انقطاع الكهرباء، والأخبار المتضاربة، والتنبؤات المخيفة -التي صدقت لاحقًا.لا خشوع، لا تدبّر، خوف مستمر، وقصف متصل لطائرات الناتو زادت كثافته مع دخول رمضان!

ثالث رمضان استعدتُ فيه قدرتي على استقباله، وبدأت أبني طقوسًا خاصة بأسرتي، وكنت قد توصلت لتسوية بيني وبين زوجي في طريقة دمج وتشذيب الطقوس التي جلبها معه كل منا من بيت أهله، جلها طقوس متعلقة بسفرة الإفطار. أما أهم هذه الطقوس هو صناعة فوانيس لكل فرد من العائلة، فوانيس ورقية ملونة كان هدفي الأول منها هو تعريف صغاري مبكرا بهذا الشهر وصناعة ذكرياتهم التي ستشكل لهم “رائحة رمضان” -ربما- لاحقا كما فعلتْ معي ذكرياتي التي صنعها والديّ.

هناك رمضان الذي قررت فيه تعليم ابنتي البكر دخول الحمام، وتعلمتُ أنا فيه قيادة السيارة، تلك الآلة التي كنت أموت خوفا منها، كدتُ أفقد عقلي لأن الحدثين كانا هائلين بالنسبة لي!

وهناك رمضان الذي قررنا إمضاؤه خارج الوطن، سافرنا من مطار لم نعد إليه أبدا، لأنه احترق، احترق في منتصف الشهر تماما، وكان ذلك اليوم البائس هو يوم ذكرى ميلادي الثلاثون! عدنا للوطن عن طريق البر بعد العيد بأسبوعين، وغيمة سوداء ضخمة كانت تُشاهَد على بُعد مئات الكيلومترات تغطي سماء طرابلس، كانت ناتجة عن حريق خزانات النفط الواقعة في منطقة سكني.

رمضان هذا العام هو رمضاني الثامن بعد زواجي، بثلاثة أطفال، صداع أكثر، فوانيس أكثر، حروب اعتدناها أو هكذا توهمنا، مع توقعات مستمرة نتيجة العادة -الثورية- بحدوث أزمات وقود أو سلع تموينية أو انقطاعات للكهرباء، وهذه الأخيرة تعتبر من الطقوس التي لازمت هذا الشهر؛ ولكنها غابت هذه المرة! نتساءل بحذر شديد عن السبب ونخشى أن نوقظ المفتعلين لها عن غفلتهم فيقوموا بواجبهم بقطعها!

ولكنه أتى ببهجته، ورائحته رغم أنوف الظلاميين.

أعتذر يا رمضان لأني رفضت استقبالك في البداية، وشكرا لأنك دخلت بيتي دون استئذان، شكرا لأنك انتشلتني من الحاضر، شكرا لأنك ذكرتني بأننا اجتزنا معا أزمات مماثلة -بل أسوأ- سابقا، لقد تعافيت، بك ولأجلك.

تعليقات