*نُشرت على فاصلة 2018
"الزوفري"، هكذا لقبني صبيان "شارعنا" بعد شهرة حظيت بها لخبرة تجاوزت العشرة أعوام قولًا وفعلًا في أمور قذرة، ولم أعد أذكر تحديدًا متى صار هذا اللقب ملازمًا لي، ولكني أتلذذ جدًّا بما يمنحني إياه من هيبة وسلطان على الأقل في شارعنا والأحياء الملاصقة له.
أحاول تذكّر متى بدأت مسيرتي الزوفرية سيئة الصيت على وجه التحديد، وتعود بي ذاكرتي إلى حين كنت قد أنهيت الصف الأول الابتدائي، وبدأت العطلة الصيفية رسميًّا، ليبدأ معها تذمر أمي حيال شقاوتي في البيت. أرسلتني إلى "الكتّاب" كي تتخلص من بعض إزعاجاتي الصباحية، أدركت ذلك مبكرًا لأنها -ووالدي معها- لم تكن تحرص على متابعة حفظي بنفس حرصها على متابعة واجباتي أيام الدراسة، لهذا لم آخذ أمر حفظي القرآن على محمل الجد، فقد علمتُ أن مواظبتي -كمعظم فتيان منطقتنا- ستنتهي بمجرد بدء العام الدراسي الجديد، وما الكُتّاب إلا وسيلة للتخلص منا دون أن ينتابهم الشعور بالذنب!
أذكر أنه في أحد الأمسيات بذلك الصيف كثُر تذمر أمي وسمعتها تقول: "ياريت الكُتاب صبح وعشية!"، فاقترح أبي أن تدعني أخرج للشارع، بديهيا كبقية الفتيان في سنّي، لكن أمي اعترضت خشية اكتسابي خصال "شوارعية". كان رد أبي:
"خليه في الحوش بحداك، توة يبدالك زي البناويت"، رد لن أنساه ما حييت، مازال يطن في أذني بنبرة صوته وهو يقولها هازئًا!
انطلقتُ للشارع لحظتها لشدة ما استفزتني كلمته دون أن انتظر موافقتها، وكان "الجطوني" أول ما شاهدت عند خروجي من المنزل.
اكتفيتُ في أمسياتي "الشوارعية" الأولى بمراقبة اللاعبين، والركض وراء صاحب "الجطوني" وهو يهرب بلعبته المثيرة تلك من ركن إلى آخر بعد كل شجار يتحول إلى معركة حامية تنتهي بطرده من قبل سكان الحي، الذين ضاقوا ذرعًا بالمشاكل التي تأتِ بها هذه اللعبة المشؤومة.
تجربتي الأولى مع "الجطوني" كانت أول يوم هربت فيه من "الكُتّاب" بعد أن قرر "الشيخ" معاقبتنا بـ"فلقة" جماعية بسبب الضجة التي أحدثناها خلال خمس دقائق فقط غاب فيها قاصدًا دورة المياه! واعتبرتُ نفسي اخترتُ الوقت الملائم لتعلمها إذ أن الطلب عليها يقل وقت الضحى عكس الفترة المسائية قبيل آذان المغرب، لاعبني صاحب اللعبة مقابل نصف المبلغ، المبلغ الذي أعطتني إياه أمي كي أشتري حلوى "الدبوس" تشجيعًا لي على حفظ كتاب الله!
وتحققت أمنية أمي بشكل معاكس، فبدل أن ألتهي بالكُتّاب صبحًا ومساءً، صرت أغيب في غياهب "الجطوني" صبحًا ومساءً وأحيانا حتى بعد صلاة العشاء! لم يكن افتتاني باللعبة إلا بداية لافتتاني بعالم الفحولة الذي اعتبرته جنة الأولاد، واعتبرتها تذكرة دخولي مملكة الرجال، أردتُ أن أثبت بها لوالدي أني أبدًا لن أكون في بيتنا بنتًا أخرى تنام في حضن أمها! وهذا ما أكده دفاع أبي عني عند عودتي أول مرة ملطخًا بالـ"قاز" الذي تُدهن به "الاستيكات" في محاولة مني لمساعدة صاحب اللعبة وكسب مودته، كادتْ أمي تُجنّ حينها.
كان"الجطوني" مدرسة صيفية بامتياز، تعلمتُ فيها كيف ألعب ـ "بستيكة" خمسة ملاعبية باحترافية، بعد أن وبخني صاحب اللعبة ذات مرة إذ بالغت في دهنها بالقاز ولم يعد أحد قادر على التحكم بها! وتعلمتُ أن أكبح جماح حماستي فلا أدعها "تفرفر" إحدى "الستيكات"، لأن تلك "التفرفيرة" كانت العلامة المسجلة للمبتدئين السذّج. وتجاوزتُ مرحلة تعلم اللعبة إلى تعلم الألفاظ "المزفرة" التي كان يتلفظ بها الشباب الأكبر سنًّا حين ينسجمون في اللعبة أو يتشاجرون، تعلمتُ كل المسبات المتعلقة بالأم، وبالمناطق الحساسة والأفعال المرتبطة بها! ثم تطور الأمر إلى تعلم حركات الأيدي والأصابع المرافقة لتلك الألفاظ.
ربطتّني بصاحب اللعبة علاقة من نوع خاص، كان كالمعلم بالنسبة لي وأنا الخادم -أو الكلب الوفي- بالنسبة له، أتحدى "الملاعبية" المحترفين، وأذود عن اللعبة بـ"زوفريتي" كل من تسول له نفسه طردنا من الحي أو افتعال المشاكل.
منذ عام مضى امتلكتُ "جطونيّ" الخاص بي، لا يجرؤ أحد على الشجار أمامي، ولا يجرؤ أحد على طردي من ركني، وكما يقولون "دير روحك مجنون يخافوك الناس"، إلا أن أحد زبائن الشهر الماضي كان ضيفًا على حيّنا، لم أدرك ذلك في البداية واستفزني تحديه لي ومحاولته افتعال شجار مع أحد الملاعبية، هددته "هني روحك والا نلبسهالك قرواطة"، أقصد "الستيكة"، لم يبالِ بتهديدي وواصل شجاره كالديك المنفوش، فما كان مني إلا أن انتزعت الستيكة بالفعل، ولكني ألبستها له بين فخذيه، أغمي على الفتى في الشارع، هرب الجمهور جلّهم، ولم أنتبه لحجم الحدث إلا بعد أن جذبني جارنا "الشايب" من ياقة قميصي وجرني إلى مخفر الشرطة! بدا لي يهول الأمر ويعطيه أكبر من حجمه.
الحصيلة أن بعض الشباب الحاضرين تم استدعاؤهم للمخفر، فيما لم أمكث أنا إلا بضع ساعات، لا أعلم ماذا حدث مع ضيف حينا، ولكني أعلم جيدًا أن أخي في "الزوفرة" الذي يعمل في إحدى الميليشيات -والذي كان أحد زبائني الصيف الماضي- قد تكفل بإغلاق باب التحقيق معي في قضية لا أدري ما نوعها حتى!
لم آبه كثيرا بنوع القضيّة، يكفيني أنني أيقنت أننا ننتمي لمجتمع إما أن تكون فيه "زوفريًّا" بامتياز، وإلا فلا تلعب "الجطوني" من الأساس!
أرجو أن يكون والدي فخورًا بي.
تعليقات
إرسال تعليق