*نُشر على فاصلة 2020 ضمن حملة "دوزنها"
يحدث أحيانًا أن نُخلف وراءنا سنوات الدراسة في تخصص أحببناه -أو تظاهرنا بأننا نحبه- حين نوضع في المواجهة مع عملية البحث عن عمل، فنفاجأ بأنه ليس ثمة المزيد من الأماكن الشاغرة في مجال تخصصنا الدراسي لفائض الخريجين به، أو أننا -ببساطة- لم نعد راغبين في العمل بمجال تخصصنا هذا، أو ربما لدينا أسباب غير هذه تجبرنا على البحث عن وظيفة، أي وظيفة، المهم ألا نوصم بالبطالة.
فما أسباب وقوع كثير منا في هذا الفخ؟ وهل من الممكن تجنبه بدءًا بلحظة اختيار التخصص الدراسي؟
حاولنا فهم ثلاث تجارب في هذا الشأن، فماذا قال أصحابها؟
>> أريج: سلسلة تحديات.
بعد نيلها الشهادة الثانوية، توجّهت أريج أبو الهول (39 عامًا) إلى كلية القانون، رغبة في أن تصير محامية كأبيها. تقول: والدي محامٍ كبير، كيف لا يرث منه أحد أبنائه هذا الشرف ويواصل ما بدأه أبوه؟!
ولكن لم يكن هذا السبب الوحيد، فقد وجدت أريج نفسها في وضع تحدٍّ:
"البعض لم يتوان عن تهويل دراسة القانون في وجهي، ربما استهانة بي! قالوا: (قراية القانون واعرة مش أي حد يقدر عليها)، وقبلت التحدي أجل"
ولكن الحياة لا تسير دومًا وفق مخططاتنا الأولية، فأريج اختارت ذات يوم العمل في شركة معروفة للدعاية والإعلان، وعن سبب اختيارها العمل هناك:
"لإعجابي بهذا المجال تحديدًا، ولشغفي بفن التصوير، أحببت خوض التجربة، إضافة إلى اهتمامي بمجال صناعة العقود والموارد البشرية، فعملت به، رغم صعوبات المهنة، ولكني -للمرة الثانية- قبلت التحدي وقررت السير قُدُمًا فيها، وكانت النتيجة المزيد من الدروس التي تعلمتها في حياتي والتي تكفلتْ بصقل شخصيتي وتطويرها، فمهنتي بالموارد البشرية تستدعي القدرة على الاحتواء، سعة الصدر، وتحتّم عليّ مصادقة جميع العاملين معي مهما كانت الاختلافات الشخصية بيني وبينهم".
وللمفاجأة، حين سُئِلتْ أريج عما كانت ستدرس لو عاد بها الزمن إلى يوم تخرجها من الثانوية أجابت بثقة:
"لو يعود بي الزمن سأعود إلى دراسة القانون مجددًا، كنت سأقسم اليمين على امتهان المحاماة وسأصر عليها كي أكون سندًا لوالدي الحبيب. هل أشعر بالندم؟ لن أنكر ذلك، أجل. ندمتُ جدًّا لأني لم أعمل بمجال تخصصي الدراسي، ولم أكن عونًا لأبي وامتدادًا لما بدأه. لربما لم أكن لأتعلم ما تعلمته من عملي الحالي، لربما كانت ستتغير عدة أمور أخرى متعلقة بشخصيتي...
ولكن لا يسعني القول إلا بأن ما حدث يُعدّ قدرًا إلى حد ما، ولله فيه حكمة ربما لم أعرفها بعد، وهذا لا يعني نفوري من عملي، بالعكس، منسجمة تمامًا، ولكني أودّ لو عملتُ في مجال التصوير تحديدًا".
>> رضا: اختيار أهون الشّرّيْن.
أما المهندس رضاء الله الجهمي (26 عامًا) الحاصل على بكالوريوس في الهندسة النفطية، فيقول بأن سبب اختياره لهذا التخصص الدراسي لم يكن متبوعًا بشغف، فالخيارات المتعارف عليها في مجتمعنا إذا تخرّجت بمعدّل عالٍ هما اثنان لا ثالث لهما: الطب أو الهندسة، كخيارات "ناجحة"، ووقع اختياره على كلية الهندسة، باعتبارها "أهون الشرّين"! كما وصفها، شارحًا ما جرى:
"في الواقع كنت أتبع هذا النمط الخاطئ في اختيار التخصص طوال فترة دراستي... كان اختياري للهندسة النفطية تحديدًا مبنيًّا على مغريات قد فات أوانها منذ زمن، جميعنا كنا نعلم المميزات التي كان يتمتع بها العاملون في قطاع النفط، ولسذاجتي في ذلك الحين ظننت بأن هندسة النفط ستكون بوابتي نحو النجاح الوظيفي الكبير والسهل"
عَمل رضا بعد تخرجه بمجال الدعاية والإعلان، في البداية كصانع محتوى، ثم مشرفًا فنّيًّا لقسم التسويق الإلكتروني، فمنسّق تسويق بالقسم التجاري. ويقدم بين الحين والآخر بعض المحاولات التي يصفها بالخجولة ككاتب سكريبت فيديو لعدد من المشاريع.
يعتبر رضا نفسه متقبّلًا لعمله الحالي، رغم أنه لم يخطر بباله سابقًا العمل في هذا المجال، ولكن عدم وجود فرص عمل بمجاله دفعه للبحث في غيره، وإن كان أشد البعد عنه.
ماذا إن عاد به الزمن إلى يوم تخرجه من الثانوية؟ يجيبنا:
"إذا عدتُ بكل ما اختبرته ومررت به حتى اليوم، فإني بلا شك سأختار مجالًا آخر، لربما في الاقتصاد أو إدارة الأعمال، وذلك لأنها علوم تطبيقية أيضًا مع فارق أنها تخصصات واسعة غير محصورة كالمجال النفطي. أما إذا سمحت لنفسي بأن أحلم، وأفترض ولادتي في بلد مختلف وفق ظروف مختلفة، فأعتقد بأني سأتبع شغفي الأساسي وهو مجال الإعلام والترفيه (show business)، كنت سأختار أي تخصص دراسي له علاقة به".
>> سارة: تعب يعطي طاقة وآخر يسلبها.
تقول سارة كمال (27 عامًا) الحاصلة على ليسانس آداب قسم لغة إنجليزية بأن اختيارها لهذا التخصص جاء بناءً على نصيحة من والدتها المتخرجة من نفس القسم، ولم تمانع ما دامت متفوقة في اللغة.
غير أنها استوعبتْ بعد دخولها الكلية بأنه ليس المجال الذي ترغبه حقًّا، وبأنها شغوفة بالفنون (البصرية تحديدًا)، إلا أن عدم توفر هذا التخصص في هون دفعها إلى مواصلة ما بدأته.
سارة شخصية مفعمة بالنشاط، بدأت العمل منذ كانت طالبة، أولًا في إذاعة هون معدة ومقدمة برامج، ثم افتتحتْ استوديو تصوير أفراح (لفترة ما) لشغفها الكبير بفن التصوير. بعد التخرج عملتْ في مركز تدريب لغات، وبعد إغلاقه نتيجة الجائحة قررت الخوض في تجربة جديدة من نوعها، جديدة وفيها تحدٍ لشخصيتها وأسلوب حياتها، عملتْ كمصممة ديكور ومنسقة أفراح (wedding planner) مع مكتب مختص بهذا الشأن. عن تجربتها تحكي:
"وجدت نفسي مضطرة إلى التعامل مباشرة مع الناس، ومع فئة حساسة منهم: العرائس، ما جعلني أشعر بغربة اجتماعية وسط بيئتي المحلية. أشعر بأن هذه المهنة تأخذ مني طاقة أكثر مما تقدمها لي، لا أشعر بأني أنتمي إليها، ما زلت أتحدى نفسي فيها وأختبر مدى صبري.
ولم أجد فيها ما وجدته في التصوير، التصوير كان شغفًا بالنسبة إلي، بمعنى أن تعبه يمدني بالطاقة لا يسلبني إياها، تعبه حلو!".
ماذا لو عاد بها الزمن؟ تخبرنا بأسى: "آسفة جدًّا لما سأقوله؛ أشعر أني ضيعت عمري في الجامعة، لو عاد بي الزمن كنت سأنضم إلى معهد متوسط، إضافة لاهتمامي الشديد بالانضمام إلى ورش العمل والدورات، وأجدها أكثر فائدة من التعليم الجامعي. مشكلتي ليست مع تخصصي باللغة الإنجليزية بل مع نظام المؤسسات التعليمية لدينا... مثلًا: مر عام ونصف ولم أتمكن من الحصول على إفادة تخرجي بعد!".
تُفكّر سارة حاليًّا في العودة إلى العمل بالتصوير، لكن هذه المرة لا كمصورة أفراح، بل كمصورة دعائية، لأنها تجد نفسها فيه، فتعبه -كما وصفته- طيب.
>> قبل أن تتحول المهنة إلى محنة:
أحيانًا ينتهي المطاف بشهادة التخرج معلقة في برواز جميل وهذا كل شيء، ربما هي حالة عدم توازن بين التخصصات الدراسية وسوق العمل في البلاد، ربما السبب ضعف التوعية المبكرة ونقص الخبرة بالحياة، أو ببساطة: عجز الدولة عن احتواء الطاقة الشبابية، أو كل ما ذُكر.
ولكن أليس المهم في النهاية أن نكون صالحين نافعين أيًّا كانت مهنتنا؟ وهل وجدت بين التجارب المذكورة ما يشبه تجربة شخص تعرفه؟
تعليقات
إرسال تعليق