ذنب غير مغفور


 

*نُشرت على فاصلة 2019

كيف يفقد الرجل شرفه؟ لم يخطر ببالي يومًا هذا السؤال، ولا ببال غيري من الشباب، حتى في تجمّعاتنا الليلية تحت أعمدة الإنارة، تلك التجمّعات التي تتحول غالبا إلى محاضرات تثقيفية عن شهواتنا وكيفية إشباعها. كنت أستطيع تمييز الأكاذيب التي يسردها فتيان الحيّ عن مغامراتهم الماجنة، وقدراتهم الخارقة على إغواء الفتيات وإقناعهن بممارسة الجنس مجّانًا؛ بل وحتى إعداد الطعام لهم. قدرات أسطورية تجعل من صاحبها "فحلًا" لا تستطيع النساء رفض طلباته، طبعًا، لم يدرك بعضهم أن أكاذيبهم الساذجة مفضوحة، أو ربما أدركوا ولم يبالوا. لم أعتقد في البداية أن أحاديثنا الشبابية ستدفعني في نهاية المطاف إلى إصابتي بنفس اللعنة؛ لكن الثمن الذي دفعته كان أقسى من مجرد سرد لكذبة، ثمني حقيقة بائسة، فأنا اليوم زانٍ سابق، ومصاب بالإيدز...

فقدتُ مناعتي المكتسبة، هذه الجملة التي تلطّف حقيقة مرضي والتي لم أعرها أي اهتمام سابقًا، ها هي اليوم تمثّلني بالكامل... منذ علمتُ إصابتي بالإيدز، وأنا أحاول تخمين تلك التي نقلته لي، أهي "سندس"؛ أوّل من أدخلتني أبواب إدمان العلاقات المحرمة؟ أم أنها ريما، أم مها، أم منّوبة؟ أو ربما واحدة من أولئك الكثيرات اللاتي لم أهتم لمعرفة أسمائهن قدر اهتمامي بأن يطفئن نار شهوتي سريعًا!؟

لا أذكر عدد المرات التي استهترت فيها وتجاهلت أهمية حماية نفسي باستعمال وسيلة وقاية، خوفي من السحر أو السرقة أو التورط في حُبّ إحداهن كان أكبر من حرصي على سلامتي، إدماني على النساء أعماني في كل مرة، فنحن حين نلهث تلبيةً لطلبات أنفسنا التي لا تشبع، ننسى عواقب ذلك السُّعار، ننسى لحظات الندم التي تعقبه، الندم الذي صوّر لي كل فتاة عاشرتها كـ"الخنزير" ملقية أمامي على السرير، كنت عقب كل مرة أطردها بكل ما أوتيت من كره واشمئزاز.. وندم؛ ولكني لا ألبث بعد شهر أو اثنين لتجهيز جوازي، حقيبتي، وتذكرة سفر جديدة ركضًا وراء شهوة جديدة، شهوة لا تخمد.

ولكني تبتُ عن إدماني هذا، ليس بطرق العلاج المعروفة في كل العالم عدا بلادي، بل كان الأمر برمته دعوة ربانية على ما يبدو، إذ لم تجد أمي غيري مرافقًا لها في رحلة الحج، رافقتها على مضض، غير عازم على التوبة عن ذنبي ذاك، بل أفكّر في الإرهاق والتعب الذي سيلحقني من أداء الفريضة. هناك فوق عرفة، سالت دموعي وفاضت… بكيت ذنبي ونفسي… لم أدرِ هل هي دعوة من دعوات أمي في ذلك اليوم؟ أمي التي عرفتْ بعلاقاتي في ذلك البلد الشقيق ولم تبح. كلنا يعلم أن أهله يملكون بعض الشك إزاء نواياه في السفر رفقة أصحابه، خاصة عقب شهر رمضان!

فوق قمة عرفة، بكيت أشهُر رمضان التي لم أنل منها إلا الجوع والعطش، بكيت سنوات لم أسجد فيها وإن سجدت فمستعجلا سارحًا. بكيت حتى اغتسلت بدمعي، وعدت من تلك الرحلة إنسانًا جديدًا، مُنِحتُ فرصة جديدة، عانيتُ بعدها أيامًا صعبة، تناديني فيها شهوتي، وبضع اتصالات من أصحابي القدامى، قاومت، واكتشفت لاحقًا من صديق مقرب، بأن رحلتي "العلاجية" هذه تُخَصَّص لها مراكز علاج في دول أخرى، للتخلص من إدمان لا يقل خطرًا عن إدمان المخدرات أو المسكرات، لكن بلادي ترفض الاعتراف به إلا بعد فوات الآوان.

لم يخطر هذا السؤال ببالي بعد توبتي وحين كنت جاهلا بحقيقة مرضي، بل قررتُ حينها الزواج، لا للتعفف فحسب، بل لأنّي التقيتها وشغفت بها حُبًّا. نظرتي لها كانت غير تلك التي كنت أتصيد بها فرائسي -أو ربما كنتُ أنا فريستهنّ!-، أردتها طول العمر، أردتها روحًا وجسدًا، فاعترفت لها بماضيّ التعس، وغفرتْ لي مؤكدةً: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له"... لم أضع في حسباني، يوم ذهابي إلى "المرجعي" لإجراء التحاليل المطلوبة لعقد القران، بأن هناك "ذنبًا" آخر ينتظرني على بعد بضعة أيام، ذنبًا لا يغفره المجتمع، صفعة تلقيتها على وجهي لحظة قرأت نتيجة تحليل الإيدز:

HIV >>> Positive

الحالة الوحيدة التي يكون فيها مصطلح "إيجابي" هو أكبر حدث "سلبي" تشهده في حياتك، حكم بالإعدام حتى إشعار آخر، حكم بالموت اليومي وأنت تشهد غيرك يتزوج وينجب ملائكة تنعش حياته وتطهرها، ترى بأم عينك بعضًا ممن رافقوك في رحلة "إدمانك"، لماذا لحقك "الذنب" أنت بالذات؟

احترتُ هل أصارحها وأفضح نفسي أمام أهلها أم أنهي علاقتنا تحت أي ذريعة أخرى؟ ما فائدة مصارحتها إن كانت النتيجة معروفة، إذ لا يحق لي مع هذه النتيجة الزواج إلا من مصابة مثلي، وإن اختلف سبب إصابة العروس البديلة، المسكينة الافتراضية! 

يسألني صوت في رأسي: "ما فائدة توبتك ومغفرة ذنبك في السماء إن كنت ستعيش الجحيم على الأرض؟ ربما لم يُغفر ذنبك من الأساس وإلا لما أصابك ما أصابك!". لماذا أنا؟! يزيد هذا على حملي ويحثني على العودة إلى إدماني، منتقمًا، ناقلا الذنب لغيري...

حائر بين مقاومة هذا الصوت والتشبث بتوبتي، وبين الرضوخ له، فأنا موصوم بالعار، وميت مع وقف التنفيذ.

تعليقات