نحن لا نكتب لأنفسنا، علينا أولا أن نقرّ بهذه الحقيقة قبل أن ننتقل للأخرى، ولو كنا نفعل، لاحتفظنا بما نكتبه في خزائننا السرية، أو ألقينا به في أول سلة مهملات، على اعتبارنا أفرغنا ما في جعبتنا ووصلنا لمرحلة الارتياح.
الكتابة للذات هي بوحٌ، لا نسعى لأن يقرأه غيرنا، بل ربما لهذا السبب نخفيه، أو نحرقه.
أما الكتابة للأدب، كتابة مسؤولة، حتى إن كنت تكتب للترفيه، ثمة شعور بالمسؤولية، بالرغبة المُلحّة في مشاركة أحلام يقظتك، وهلاوسك، وأفكارك التي تعتقد أنها قد تغيّر قليلا من فهمك للعالم، أو فهم العالم لك ولأمثالك.
قبل النشر الورقي
خضوعًا لهذه الرغبة ننشر على السوشال ميديا وفي المدونات ونُلحّ في نشر ما نكتبه، نُلحّ في عرضه على قراء محتملين، ونرتكب بعض الحماقات، فنعرض ما كتبناه على كُتّاب محترفين، نعرف جيدًا أنهم لن يجدوا وقتًا يجازفون به على مخطوطاتنا التي على الأرجح لن تكون قد تحصلت بعد على اعتراف إحدى دور النشر.
والمجتمع الأدبي، أو فلنتوسع ولنقل المجتمع الثقافي (مع تحفظي)، لن يعترف بك ما لم تعترف بك دار نشر ذات سمعة لها شنة ورنة. ودار النشر لن تقبل مخطوطتك، لأنها لم تعجبهم، ولكنهم سيخبرونك بأنها "لا تناسب سياسة الدار".
هذا لا يعني أن قبول النشر أمر تعجيزي، فهو سيحصل في النهاية.
عيب الكتابة إلحاحها، وغرورها، فهي لا تقبل إلا أن تُنشر، وتنتشر، وأن يتحدث عنها القراء الكبار والمبتدئين، وأن تزهو على رفوف معارض الكتب، وأن يوصي بها البوكتيوبرز والبوكتوكرز، والإنستابوكرز، وهلمّ جرَّا... ولكن هذا أصعب من عملية الكتابة في ذاتها. إنجاز كتاب هو عمل منوط بالكاتب، بجهده وإخلاصه وصدقه، أما الانتشار فهذه معادلة عشوائية، لا تخضع لقوانين الطبيعة.
نعم، الانتشار لا يخضع لقوانين الطبيعة، ومن الآخر، فهو يخضع لقوانين الجوائز الأدبية، وأنا هنا لا أنتقد الجوائز، فأنا عُرِفتُ بجائزة أدبية خصّصتها دار الساقي اللبنانية للرواية الأولى، وكنت أنشر كتاباتي (قصص، مقالات، تدوينات) قبل فوزي بالجائزة بثلاث سنوات، وكنت قد راسلتُ مِنَ الوسط الثقافي من تعشّمتُ في وقتهم ولم أخرج بنتيجة، وكنتُ قد طلبتُ رأي ناقد أدبي عبثًا.. وكنتُ وكنتُ وكنت... حتى أعلنت وكالات إخبارية معروفة فوز روايتي الأولى بجائزة "مي غصوب"، وانتابتني حالة من الهلع حين ازدحم بريدي فجأة، بالمباركين والكارهين والفضوليين، وطبعًا بالصحفيين ونفر من الكُتّاب. الجائزة كانت جديدة على الساحة الأدبية، في دورتها الأولى، تحصلت على اهتمام لم أكن أتخيله، وعرفتُ فجأة الخوف من أن يقرأ لي الشخص الخطأ، فللكاتب أيضًا قُرّاء مفضّلون، وآخرون ليسوا كذلك!
بعد النشر الورقي
وانتقلتُ من مرحلة الهواة إلى المؤلفين، أي وضعتُ خطوتي الأولى على درب الاحتراف. مع تحفّظي على لفظة "احتراف".
المهمّ، ظننتُ أنني وصلت للقراء، ولكن هيهات. فالنشر ليس نهاية المطاف، النشر لا يضمن لك الوصول.
ثمّة طرق للوصل ولكنها طويلة وبحاجة إلى صبر كبير، كدعوة بعض الكتاب والمؤثرين لقراءة كتابك بإهدائهم نُسَخًا مجانية، رغم أنها طريقة غير مضمونة فمعظمهم قد يلقي بكتابك في أول درج منسي في أحسن أحواله. أو التعويل على طريق الاستمرارية والغزارة في الكتابة، وانتظار لحظة فارقة يبسم لك فيها الحظّ، وحتى هذه الطريقة غير مضمونة، فدار النشر قد تتخلى عنك إن كانت مبيعات كتابك لا تأتي بتكلفة إنتاجه. أو طريق الاعتماد على توصيات المكتبات، وخططها الترويجية إن وُجدتْ، وهذه طريق تعتمد على العلاقات بالدرجة الأولى.
في الواقع، لا شيء يضمن الوصول إلى عدد كبير من القراء، داخل الحدود وما ورائها، في وقت قياسي قصير (ما يكفي لنفاد طبعة أولى من 2000 نسخة خلال شهر مثلا أو أقل) مهما كانت جودة كتابك، اللهم إلا من خلال طريقين:
الأول: أن تكون شخصية مؤثرة، ولها وجود قويّ على منصات التواصل الاجتماعي وتملك قاعدة عريضة من المتابعين.
الثاني: أن تحصد جائزة ضخمة. ثمة الكثير من الجوائز الأدبية المخصصة للروايات والقصص، ولكن القليل فقط يحظى باهتمام وسائل الإعلام ومجتمع القُرّاء.
وبما أن مُعظم الكتاب لا يحظون بشعبية على منصات التواصل الاجتماعي، لطباعهم المتحفّظة وميولهم الانعزالية، فإن الطريق الأول يظلّ خاصًّا بفئة نادرة منهم يملكون موهبة نسميها "الكاريزما".
لعلّ هذا يُفسّر التوجه العام نحو الجوائز، رغم أنها تفعل بأعصاب الكاتب وبروحه ربما أكثر مما تفعله كل الطرق آنفة الذكر. فانتظار إعلانها عذاب، وإعلان نتائجها حين لا تكون في صالحنا جولة عذاب أخرى، ستجد نفسك فيها تصارع الشعور بالدونية، والشّكّ، وانعدام الاستحقاقية. وقد يدفع هذا بالبعض نحو الانسحاب النهائي. رغم أننا ندرك في أعماق ذواتنا أن الجوائز الأدبية ليست مقياسًا حقيقيًّا، وأنها في نهاية المطاف تعبّر عن السمة الغالبة في توجهات وطموحات أعضاء لجان التحكيم وذائقتهم، والتي قد تتفق مع ذائقة القراءة أو لا تفعل، ولهذا نجد أحيانًا كثيرة، لغطًا كبيرًا يحصل بعد إعلان جائزة ما حول العمل الفائز.
من جهتي، قررت الابتعاد التام عن المشاركة في بعض تلك الجوائز، اعتبرت أنه "مافيش نصيب معاها" ببساطة، هل هذا انسحاب تامّ؟ لا. سأظل أحاول بينما أكتب. لأن القاعدة العامة من القراء –وللأسف الشديد- لن تمنحك فرصة ما لم تكن كاتبًا جدليًّا، كاريزميًّا، أو حائزًا على جائزة أدبية ثقيلة.
وبهذه المناسبة، وختامًا، أودّ أن أتوجه بامتناني العظيم، لكلّ قارئ خاض تجربة القراءة لي، هكذا، دون أن يسمع عني من قبل، دون أن يطّلع على صفحتي ليتأكد من عدد المتابعين، ودون أن يعرف شكلي أو تفاصيل حياتي. شكرًا من القلب، لأنك تنتمي لقراء الزمن السابق للعولمة، تنتمي لقراء نجيب محفوظ (قبل نوبل)، حين كانت القراءة تجربة، مغامرة، يقبل نحوها القارئ بشغف غير آبهٍ بما سيترتب عنها.
تعليقات
إرسال تعليق