العروس الأرملة

 


*نُشرت على فاصلة 2019

خيروني بين خيارين لا ثالث لهما؛ إما زواجي من سَلفي بعد انتهاء العدة، أو عودتي لبيت أهلي، أربعة أشهر قمرية وعشرة أيام أُتخِمتُ فيها بمحاولات لإقناعي، عوضًا عن قضاء عدّتي في محاولة تمالك نفسي والنهوض بها مجددا، وتقبل الحياة بعد فقدي لشريكي الذي عشت معه أجمل ست سنوات من عمري.

مضت تلك الأشهر وأنا أمثل دور الكرة التي أراد الكل تسجيلها هدفًا في صالحه، تحاول عمتي إقناعي بالزواج من ابنها الآخر، سلفي الأعزب الذي يصغرني بعدة أعوام، تستجديني، تخبرني بأنها لا تطيق لأحفادها من ابنها البكر فراقًا، تقول: "نشم فيهم ريحة المرحوم"، أحيانًا يرتدي استجداؤها ثوبًا قاسيًا حين تهددني بأن انتقالي لأهلي سيفتح باب زواجي مرة أخرى، وأن زواجًا آخرًا يعني قانونًا حرماني من حضانة ابني وابنتي وانتقالها إليها، تُذكّرني: "أمك مريضة ماتقدرش تعاني عيالك كان ازوزتي، وخواتك كلهم مزّوزات، ما فيش إلا أنا!"، أطمئنها: "كان ما ازوزتش حميد مش حنتجوز بكل يا عمتي اطمني"، تارة ترد بنظرة مشفقة على حالي وترمّلي مبكّرًا، وتارة تشي نظرتها بتكذيبي، فأنا في نظرها ونظر أهلي أيضًا من النوع المطلوب؛ لم أبلغ منتصف ثلاثينياتي بعد، ومازلت قادرة على الإنجاب.

وأهلي؟ نعم، لعبوا بي كالكرة هم أيضًا، أخواتي يحرضنني على العودة ونسيان أمر الزواج لاعبات على وتر قصة الحب العظيمة التي جمعتْني بفقيدي، وأعلم جيدً ما عانينه مع والدتي بعد زواجي، فبعد أن كنت الوحيدة المسؤولة عن العناية بها وبصحتها، صرنا نقتسم الواجب، فقد صرت صاحبة بيت ومسؤوليات زادت مع إنجابي، لطالما شعرتْ أمي بأنها عبءٌ عليهن، كثيرًا ما أجلتْ طلباتها ورغباتها لموعد مجيئي إليها. ولكن أبي يقف مناصرًا لعمتي، يقول وعيناه تراوغان دون النظر المباشر في وجهي: "حوش بوك مفتوح لك يا بنتي، لكن الصغار خليهم لعمامهم وجداهم مافيش من بيتزوجك بيهم"، أفهم شعوره بالخجل حين يكون صريحًا ويعلم أن صراحته تؤذينا، أرفض وأمتعض من فكرة زواجي مرة أخرى، فيذكّرني بأن الحي أبقى من الميّت؛ فأقسم بأغلظ الأيمان التي سمعتها في حياتي أني لن أفعل، يؤكد ظنوني التي لم أنطق بها: "مانقدرش نتحمل مسؤولية تربيتهم، وأصلا أنا يا الله نصرف على دوايات امك".

وضعتُ في الملعب مرمًى ثالثًا، أخبرتهم بأني أنوي البقاء في بيتي، مع ابني وابنتي، أربيهم بنفسي لستُ بحاجة إلى رجل، لا أنا براغبة في النوم إلى جوار آخر، ولا أنا بالعاجزة عن الصرف على البيت، أعمل وراتبي يكفيني، وبيتي من حقي ومن حق أبنائي لا ينازعني فيه أحد، وبالتأكيد، ليس هناك من سيربيهم ويحبهم مثلي بعد فقدانهم أبيهم؛ ولكن فكرتي لم ترُق لأي من الفرق المتنافسة، أحرقوا مرماي، نعتوني بالساذجة فالملعب لا يحتمل أكثر من فريقين، ولا يسع أكثر من مرميين، اتهمني الرجال بالرغبة الدفينة في المشي على "حل شعري"، اتهموني بنقص العقل الذي يحول بيني وبين تربية أبنائي تربية سوية.

الوحيد الذي أيدني في قراري على استحياء كان سلفي الذي يريدون تزويجي به، وسبب تأييده واضح، لديه حبيبته التي ينوي الزواج بها. لا أحد يهتم حقًّا بقراري. كلهم يملكون وجهات نظر منطقية بالنسبة لهم، أنانية بالنسبة لي. بعد معارك من الكر والفر، كانت لأبي ولعمتي الكلمة النهائية، إذ تم الاتفاق بينهما بأن أُحرم من أبنائي وأزورهم كأي غريبة بين الحين والآخر إذا ما رفضتُ الزواج من سلفي، وتحت وطأة ضعفي حيال مفارقة أكبادي رضخت، وتحولتُ أنا إلى الأنانية في نظر أمي وأخواتي، وسلفي وحبيبته، لم يغفروا لي ضعفي هذا وعجزي عن مواجهة المجتمع إذا ما استقلّيت بعيدًا عنهم جميعًا.

ظل سلفي –الذي لم أستطع تقبله زوجًا- يمنّ عليّ تخليه عن محبوبته وتكريس عمره لتربية أبناء أخيه وتزوجه هو الأعزب من أرملة، فيم تزوجتْ مخطوبته لاحقًا بغيره فانقطع أمل استرجاعها، ظلت أمي تغرمني وتلومني وتخبرني بأن أبنائي سيعيشون بي أو بدوني، وأنهم حين يكبرون سينسون تضحيتي مثلما نفعل نحن حيالها! ظلت أخواتي يلمحن إلى رغبتي في التملص من مسؤولياتي تجاه أمي، اتهمن قراري بأنه الفرار من وضعي السابق حين كنت صبية تعنى بأمها! 

ليلة زفافي الثاني بكيت بكائي يوم ترمُّلي، بكيت انجراري وراء ضعفي وقلة حيلتي، ألبسوني ثوبًا عاديًّا أبيضًا، اكتحلتُ مجاملة وتكفلتْ دموعي بإزالته، تكفيرًا عما اعتبرتها عيناي خيانة لذكرى زوجي، الثوب البسيط الأبيض كان حلًّا وسطًا لوضعي غير المفهوم، لم يكن أحد سعيدًا حقًّا، ولا حزينًا حقًّا، لم أرَ في بياض ثوبي يومها إلا امتدادًا لبياض كفن زوجي حين قبلته مودّعة قبل دفنه، لم يكن إلا بياض "الرباط" للأرملة في عدتها.

تعليقات