*نُشرت على فاصلة 2017، ضمن فعاليات أسبوع التوعية بسرطان الثدي
لم يكن "جمال" مهيأً بعد للمفاجأة التي تنتظره عند طبيب الأشعة، توجّه إليه في موعده المقرر وهو على يقين بأنه قد وقع في فخ "التجارة" التي يمتهنها الأطباء مؤخرًا، وبأنَّ حالته لا تستدعي كل تلك الفحوصات والأشعة خلال الأسبوعين المنصرمين؛ ولكنه قرر أن يستمر معهم حتى النهاية لمعرفة تشخيص حالته التي ولا بدَّ ما هي إلاَّ مجرد خراج ناتج عن دمالة ما ظهرت تحت الجلد جهة ثديه الأيمن، وصادف أن كان موقع هذه الدمالة بداخل الحلمة بالضبط كي تنزف الدم بهذه الصورة. لم يكن هناك ما يشغله، فقد تقاعد منذ عدة أعوام مضت، وترمّل منذ عام واحد، أولاده وبناته بين منشغل بأسرته وبين منشغل بدراسته فلا يشعر بوجودهم ولا هم يشعرون بوجوده، في حالات كهذه تبدو زيارات الأطباء فرصة لتبادل الأحاديث مع من يملك منهم رحابة الصدر، فرصة لتفريغ كل ذلك الكم الهائل من الشكاوى التي تبدو عضوية في الظاهر؛ ولكن منبعها نفسيٌّ بحت.
-ما الذي تقوله يا دكتور؟!
سأل سؤاله وابتسامة ساخرة بدت على شفتيه، لم يعرف بماذا يبدأ تساؤله، هل يسأل عن حقيقة أنه مصاب بالسرطان؟ أم يسأل عن حقيقة كونه مصاب بسرطان الثدي تحديدًا؟
وكأنَّ الطبيب كان في انتظار حالة الدهشة هذه البادية على وجه جمال المتجعد:
-سرطان الثدي يا سيد جمال يصيب الرجال أيضًا، ولكن بنسبة ضئيلة جدًا؛ لهذا يقل الوعي بأعراضه وطرق الكشف المبكر عنه. يبدو أنَّ تاريخ الأسرة كما أخبرتني سابقًا حافل بهذا النوع من الأورام، ربما لم يُصِبْ الإناث فقط كما ذكرت لي، أو ربما أنت الحالة الذكورية الأولى في أسرتك!
الطبيب يشرح بتوسع، يتحدث عن نسب مئوية، عن مراحل المرض والتي اتضح من خلال الفحص الذي أجري له أنه في المرحلة الثانية منها. يتحدث عن طرق العلاج، على الأرجح سيتم علاج جمال على مرحلتين، تحدث عن مرحلة الجراحة التي سيتم فيها استئصاله ما أمكن، ثم مرحلة العلاج الهرموني، تحدث طويلاً وجمال يصغي إليه بفم فاغر وقلب قد استقر في معدته.
-هل لديك أية أسئلة يا سيد جمال؟
-..............
-سيد جمال يجب أن تكون مؤمنًا بإرادة الله، ومؤمنًا بأنَّ لكل منّا ساعة سيُوفَّى فيها أجله، سواء كان صحيحًا أم عليلاً.
-..............
-دعني أبشرك بأنَّ استجابة الرجال للعلاج الهرموني أعلى منها لدى النساء! أنا لا أخبرك بهذا تلفيقًا أو لمجرد طمأنتك! هذه معلومة علمية مؤكدة ولها ما يفسّرها!
-ماذا سأقول لأولادي؟ أنّي مصاب بسرطان الثدي؟!
قالها جمال وكل تعابير الاشمئزاز التي عرفتها البشرية بادية على محياه، وبدا أنَّ كل تجاعيد وتغضنات وجهه منحوتة عليه لا طارئة.
-ليس في الأمر ما هو مخجل سيد جمال! عليك أن تفكر في مرحلة علاجك القادمة لا في ما يسببه الأمر من إحراج تتوهمه!
صرف عينه عن الطبيب، وظلَّ حاجباه المنعقدان الكثيفان يخفيان خلفهما محجري عينيه، حيث تجمعت بركتين من المياه شديدتي الملوحة، لم يعرف أيهما سبب كل هذا الحزن؛ أنه مريض بالسرطان، أم أنه مريض بسرطان الثدي الذي لطالما توجهت إعلاناته التوعوية نحو نون النسوة، وتميّزت حملاته باللون الزهري، الذي -لسبب يجهله جمال- خُصّص للنساء!
مشى بخطوات مترددة نحو الباب، وقبل أن يدفع بمقبضه للداخل التفت نحو الطبيب:
-إن كان يصيب الرجال أيضًا؛ إذًا لماذا اللون الزهري؟
تعليقات
إرسال تعليق