لستُ خديجة


 

*نُشرت على فاصلة 2018، وفي مجموعة "حي القطط السمان" 2021

كانت أُولى زوجات الرسول الكريم تكبره بسنوات عديدة، ما فتئتُ أقنع نفسي بهذه الفكرة للزواج منه، ذاك الشاب الذي كان قبل عام ونصف من تقدمه إليّ مجرد طالب عندي في معمل الطبيعة بالكلية، ولكني نسيتُ أني لستُ السيدة خديجة، وهو –بالطبع- لن يكون كالرسول الكريم!
في الماضي، اعتدتُ التلميحات والتغزل من قبل بعض الطلبة، وهذا راجع لما يبدو عليه ظاهر شكلي، فقد كنتُ بجانبهم أبدو وكأني إحدى زميلاتهم، أو ربما أصغر، بعضهم كان يُصاب بالدهشة حين يبدأ في حضور ساعات المعمل، فيفاجأ بي أستاذته وقد كان قبل دقائق من دخوله للمعمل يشاكسني، أقف أمام السبورة، آمره بتسليم تقارير المعمل، وأُقيّمه على أدائه، بل وأكثر من هذا؛ آمره بالتزام الصمت واحترام وقوفي أمامه، هذا كان أول اصطدام بيننا، انجذب لي فيما اعتبرتُه مجرد شاب عالق في مراهقته، ظننتُ أنه يحاول إثارة السخرية والضحك بمحاولاته المفضوحة لجذب انتباهي واستمالتي، هكذا علنًأ أمام زملائه وزميلاته!
وحين تخرَّج هو، وبدأ العمل كمعيد معي في نفس القسم، كنتُ أمرّ بفترة حرجة؛ الندم على بعض الفرص التي فوَّتُّها، والحيرة تجاه ما إذا كانت هناك فرصٌ أفضل، أرى قطار الزواج يأتي مسرعًا من بعيد، أسمع صفاراته، وأقف في منتصف السكة، لا أعرف كيف أصعد إليه، وينتابني إحساس قوي بأنه سيقوم بدهسي ولن يقف لينتظرني، فما كان مني إلا التحايل على هذا القطار؛ خفَّضتُ سقف طموحاتي، فلم يعد من الضروري أن يملك العريس المنتظر بيتًا، ليس من بأس حتى في الإقامة مع أسرته، قررتُ أني لا أريد ذهبًا ولا بدلة عربية، لا كبيرة ولا صغيرة ولا حتى أدنى من ذلك.
وحين تقدَّم هو نفسه ذلك الشاب العالق في مراهقته بعد عام من تخرجه، تنازلتُ حتى عن فكرتي في أن يكبرني العريس بعشرة أعوام، وقبلتُ بالعكس، قبلتُ به يصغرني بعشرة أعوام، وبعد أن عرفتُ بعدم رضا أهله عن زيجته مني، ورضوخهم كارهين لرغبته وإلحاحه، تجاهلتُ الأمر ولم أُبالِ، قلتُ في نفسي “المهم هو، سأتزوجه هو لا أمه أو أخواته!”، أمه وأخواته اللاتي يبررن اختياره لي بأنه مسحور؛ ولكنهن لم يستطعن اكتشاف الوسيلة التي سحرتُه بها حسب زعمهم، فنحن لم نكن على علاقة، وكان تقدمه لخطبتي صدمة لي كما كان بالنسبة لهن.
والآن، مضى على زواجنا خمس سنوات، رُزقنا بطفلين، ولكني اكتشفتُ فجأة بأني على أعتاب ما يسمونها بسن اليأس، فيما هو قد دخل لتوه ثلاثينياته، عز الشباب وعنفوانه، الأمر لم يكن متعلقًا ببدء اضطراب عادتي الشهرية مؤذنة برياح التغيير التي توشك أن تهب على جسدي مجددا، معلنة بدء الخريف هذه المرة، ولم يكن متعلقًا بالتعليقات الجارحة والتذكير الدائم من جهة أهله بكوني أكبر منه، وبأني في عمر شقيقته الكبرى التي توشك على تزويج ابنتها البِكر، الأمر كان يتعلق بي وبه فقط لا غير، فقدتُ ثقتي بنفسي، بدأتُ أشتعل غيرة وحنقًا من كل طالبة في مجموعته، أحقد على تلك التي لا تتوانى عن اللحاق به إلى مكتبه ليشرح لها مسألة استعصتْ عليها، أو تلك التي أهدتْه ساعة يد باهظة الثمن لأنه كان كريمًا في منح العلامات! والغيرة تطورت لتصبح شكًّا، وحين يمر الحب بهذا النفق ينتحر في النهاية.
الغيرة لم تكن بسبب خوفي من زواجه بأخرى، الغيرة كانت بسبب ذلك الشعور البغيض الذي بدأتْ تُحدثه في نفسي آثار بعض التجاعيد حول عينيّ، وكثير من الشيب الذي أرممه بالأصباغ، شعوري بأني أقل جمالا وفتنة من كل أولئك المحيطات بزوجي يراجعنه في إجابات أسئلة الامتحان بعد خروجهن منه.
كرهتُ نفسي، كرهتُ كرهي لنفسي وتخلي ثقتي عني، وكرهته، كرهتُ هدوءه ولامبالاته تجاه ما أمر به، كرهتُ عدم إنكاره لنوبات الشك التي كنتُ أصبها فوق رأسه، كرهتُ حتى عطوره التي كان يتعطر بها لكل الناس ما عداي!
وراء اختياراتنا تقبع دوافع بعضها نعلنها، وكثير منها ندسه في بواطننا، وكما هي الدوافع تكون النتائج التي نصل إليها، أُقِرُّ الآن بأن اختياري لم يكن صائبًا، لا لفارق العمر؛ بل للنتائج المترتبة عن فارق العمر والتي لم أحسب لها حسبانًا، النتائج التي لم تجد بيئة الحب والإرادة الكافية لمواجهتها، فالانجذاب بيننا منذ البداية لم يكن متبادلا، رضيتُ به فقط خوفًا من لقب “عانس”، كرهتُ تلك اللحظة التي أقنعتُ فيها نفسي بأن قصتنا قد تكون كقصة الزواج الأول للرسول الكريم، فاتني أن دوافعنا اختلفتْ، وبالتالي النتائج اختفلتْ، فاتني أني لستُ السيدة خديجة، وهو –بالطبع- لن يكون كالرسول الكريم!

تعليقات