الفنان: طبيب أسنان

 


*نُشرت على فاصلة 2020 ضمن حملة "دوزنها"

لا شيء يُسمع في الصالون الفخم إلا فرقعة أصابعي وأنا أنتظر دخول نسيبي المستقبلي من الباب، يعيد ابنه عبارات الترحيب، وأسئلة على منوال: "شن الأمور؟ شن حال العويلة؟"، أجيبه بالحمد وأرد إليه الأسئلة على طريقة "كوبي بيست"، فسبب زيارتي معروف: خطبة شقيقته، إلا أنه من غير المسموح وفق البروتوكول البدء بفتح الموضوع الخطير قبل تشريف الأب.

أتطلع إلى جواربي التي انتقيتها بعناية مع البدلة لموقف مهيب كهذا، أحاول ألا أبدو منبهرًا بالصالون المذهب وبلوحة -توحي أجواؤها بعصر النهضة الأوروبية- معلقة على الحائط المقابل لي، يبدو أنهم أسرة تهتم بالفن، بالطبع هم كذلك، وإلا فكيف انجذبتْ حبيبتي "إيمان" إلى قيثارتي عبر الراديو الذي أعمل به؟ وكما قال "بشار بن برد" يومًا: "الأذن تعشق قبل العين أحيانًا"، لكنهم ما داموا كذلك، لِمَ أصرّت على إخفاء حقيقة اعتياشي -حرفيًّا- من عملي بالراديو كمنسق موسيقى وعازف سولو للقيثار وأحيانًا للبيانو في بعض الفقرات؟ لِمَ استحلفتْني ألا أُعرّف بنفسي إلا بالصفة التي لا تشبهني بقدر ما تلتصق بي كبرواز ذهبي اللون بلاستيكي الصُّنع: طبيب أسنان يعمل في مستوصف حكومي بائس، إطار يبدو أكثر فخامة من صورتي فيه مرتديًا البالطو الأبيض وممسكًا بالعدّة، صورة لا علاقة لها بتيبس جلد أنامل يسراي الناتج من الضغط على أوتار قيثارتي.

سيدخل الرجل بعد قليل من الباب المزدوج الضخم إلى الصالون، سأنهض مُرحّبًا به بكل التهذيب واللباقة والأناقة والدماثة التي تعلمتها في حياتي، سيسألني نفس أسئلة ابنه هذا الذي يجلس متقلقًا إلى جواري ولا يعرف كيف يمكن لنا أن نكسر الصمت، وسيستمر سؤاله عن حالي وحال أهلي وأحوال الحياة معي حتى أستجمع شجاعتي وأفاتحه في الموضوع، وربما إن غلبني حيائي سيبادر إلى سؤالي عما أعمل…

وهنا عليّ أن أفكر في كل كلمة سأتفوه بها، ينبغي عليّ إخباره بأني صاحب بكالوريوس في طب الأسنان، إن سألني عن عملي؟ سأخبره بالطبع بأني طبيب في مستوصف حكومي، ستُعجبه شهادتي ولقبي، ولكنه سيشعر ببعض القلق، فهو على علم تام بمرتبات الأطباء الذين يعملون في القطاع الحكومي، فابنه هذا -الذي يراقب ساعته ويحركها في معصمه متململًا- طبيب عظام حاله لا يختلف عن حالي، يحاول العمل في القطاع الخاص والحال لا يتحسن كما يفترض به. ابنته (حبيبتي) خريجة لغات، يخبرونها بأن التعليم أنسب مهنة لها وهي ترفض، تحلم بأن تصير مترجمة أدبية ولكنها لا تجد قبولًا من محيطها، فوالدها رجل محافظ يرفض احتكاك ابنته الوحيدة بالرجال في مقر العمل... ربما هذا يناسبني أيضًا!

ولكن ما لا يناسبني هو احتمالية سؤاله عن مصدر الدخل الذي بنيت به شقتي الصغيرة فوق بيت أسرتي، وأرجو حين تحين تلك اللحظة أن يخمن بنفسه أني -ولا بد- أعمل في عيادة أسنان خاصة، وكأنها تدرّ حقًّا ما يعينني على بناء مستقبلي! أو أن أسرتي قد تكفلت بذلك (وهذا صحيح جزئيًّا إنما ليس بشكل تامّ).

هل سأجرؤ على إخباره بأني أهوى الموسيقى؟ وبأنها عملي الرسمي والحقيقي؟ وبأني محظوظ لأني أعمل في راديو تموله جهات أجنبية؟ هل أخبره بأني أقيم بين الحين والآخر حفلات شبابية على نطاق ضيق وأتقاضى منها في الليلة ما يتقاضاه هو الأستاذ الجامعي في شهر؟

أوصتني أمي ألا أفعل، قالت لو كان أبوك حيًّا لتكفّل عنك بهذه المهمة، وكذلك تخبرني حبيبتي، وأختي وأخي وبعض أصدقائي: إياك أن تعلن عن ذلك، يجب أن تبقى الموسيقى، عزفك، وما تفعله في الراديو محض هواية تمارسها، ولا ينبغي أبدًا أن يُعلن عن أماكن ممارستها!

الموسيقى كغيرها من الفنون، يُنظر إلى صاحبها بنظرات الإعجاب والاحترام طالما لم تتعدَّ كونها هواية يمارسها إلى جانب عمله "الحقيقي"، وتفقد قداستها فور أن تتحول إلى مهنة ومصدر للدخل... ما زلتُ أذكر جحوظ عيني والدي -رحمه الله- يوم أخبرته بأني راغب في دخول معهد الموسيقى، شعرتُ بمرارة في حلقي حين ذكّرني بما صرفه عليّ وبكفاحه وأمي ليوفرا لي الجوّ المناسب كي أنجح بتفوق كما فعلت. الحقيقة أني بالفعل نجحتُ بامتياز، فقد شعرتُ دومًا أني مدين لهما بالدرجات النهائية! حالة الشعور بالذنب هذه هي ما دعتني إلى تتبع الجموع، أين يذهب معظم أصحابي؟ إلى الطب؟ الهندسة؟ حسنًا، استقر الأمر في النهاية على طب الأسنان لأسباب لم يعد بوسعي تذكرها.

هل أكذب على نسيبي المحتمل؟ أليس من الشؤم أن أبدأ صفحة جديدة من حياتي بكذبة؟!
ها هو يدخل صالون الاستقبال، وتدخل معه هيبته وجُبني وحيرتي أمام اللحظات الآتية. تسير الأمور كما توقعت، تخونني شجاعتي ويغالبني الصمت، يسألني نسيبي -كما أرجو أن يكون- ماذا تعمل؟ أين تعمل؟

***
لم تتعدّ خطواتي العشرة حين رنّ هاتفي وهتف صوت إيمان الحبيبة من السماعة: شن صار؟

"مش عارف"، فأنا حرفيًّا لا أكاد أتذكر تفاصيل الحديث الذي دار، غالبني الصمت مجددًا ونادرًا ما فعل معها، انتظرتْ مني المزيد، فهمتُ من تنهيدتها خيبة أمل وخوف واضح، أطلقت سراح أول زرّين من قميصي عند عنقي طالبًا المزيد من الهواء.

"ما تخافيش... أنا الحق مش عارف انطباعه عني، لكن الموضوع اللي في بالك ما يعرفش بيه بوك، أو بالأحرى اضطريت أني نتلاعب بالحقائق لما سألني بالصدفة وأنا نبربش في صوابعي على الخطوط الداكنة فيهم، قلتله إني نعزف بالجوّ على القيتار، ومرات على البيانو، وبس"

ولن أنسى ملامح وجهه حين ذكرت نصف الحقيقة، أو بالأحرى حين كذبت، رفع حاجبيه، اتسعت عيناه، وشدّ طرفي شفتيه إلى أسفل تعبيرًا عن انبهاره! أتوقع أن ملامحه كانت ستختلف كُلّيًّا إذا أخبرته بالحقيقة كاملة.

لِمَ شعرتُ بأنني خنت نفسي؟ لِمَ حين دخلتُ غرفتي ورأيت قيثارتي مرمية على السرير خُيّل إلي أنها مجرد عشيقة، يتخذها زوج ما سرًّا لإسعاده دون أن يكون مضطرًا إلى كسر "برستيج" زوجته أمام المجتمع؟

يبقى هذا قدرها وقدري، ريثما يعيد المجتمع النظر في بعض التخصصات المنبوذة، ويرفع عنها وصم الدونية، سأكذب ريثما يحصل التحول العظيم. ولكن... ألا يصبح التحول مستحيلًا ما دمتُ وأمثالي نكذب؟!

تعليقات