ضيف إجباري

 


*نُشرت على فاصلة 2020

المباح أصبح ممنوعًا، والممنوع مباحًا، فلم أعد أملك سلطة سنّ القوانين، لاسيّما على أطفالي؛ فنحن خمس عائلات: زوجي وأبويه، وإخوته الثلاثة، كلٌّ بزوجته وأولاده، في بيت أحد هؤلاء الإخوة، ضيوف حتى إشعار آخر، هذا لأن النزوح طال عائلات السلفات أيضًا، لم يسلم أحد من هذه الكارثة التي اجتاحتنا وقلبت ما تبقّى من حياتنا رأسا على عقب. 

حالة من حالات الإنكار الجماعي سادت البيت في أول أسبوع، حين اعتبرَنا "سلفي" ضيوفًا لديه، برعوا في حسن ضيافتنا حتى تقشّرت وجوهنا خجلا. في الأسبوع الثاني، عقب وقوف سلفي ليومين متتاليين أمام بوابة المصرف، وبعد بضعة تلميحات من زوجته حيال ارتفاع المصاريف، حلفنا بالأيمان المغلظة أن نشاركهم المصروف، ظنّا منّا أن ذلك سينهي أي خلافات قيد الاشتعال أو إحراجات مبطّنة؛ لكن الأمر لم يقتصر على أزمة مادّيّة، ليته كان كذلك.

مضت الأسابيع، ثم الأشهر، ولم يعد سلفي يقول "هؤلاء ضيوفي"، بل يصفنا "بالنازحين" كلما اعتذر عن ضيافة أحدهم في بيته، أو استقبال أحد ضيوف أبنائه. اعتدنا الوضع حينها، اعتدناه فيما يتعلق بالمصاريف، بالتنظيف والترتيب، وبإصلاح ما يكسره أبناؤنا، اعتدنا طابور دخول الحمام صباحًا وقبل النوم، اعتدت وسلفاتي حجابنا الذي لا ننزعه إلا ساعات الخلوة القليلة جدًّا، أي عندما نكون نائمين.

بتنا نتصرف وكأننا شركاء في بيت واحد، في محاولة منا للتخفيف عن المضيف وزوجته. تبادلنا الطبخ والنفخ، ومراجعة دروس الصغار ونقلهم إلى المدرسة ومنها، ولم ينته الشهر الرابع إلا وكنا نعمل جميعا بروتين واحد اعتدناه، أو هذا ما اعتقدناه!

في الحقيقة، بقيت هناك شوائب تراكمت حتى فاحت عفونتها، إذ إني لم أعتد توبيخ أحدهم لأطفالي، ولا توجيه سيل من الانتقادات حول أسلوب تربيتي "المتساهل"، ولا تلك التي تعلقتْ بطبخة لم أكن صاحبتها إلا أن إحداهن نسبتها لي –سهوًا أو عمداً!-، لم أعتد تقييدي في ساعات نومي ويقظتي، والتعليقات المرافقة لاستخدامي لهاتفي المحمول، لم أعتد التدقيق في نوع ثيابي ولونها، ولا.. لم أعتد فراق زوجي وتعاملنا معًا وكأننا غرباء يعيشان تحت سقف واحد، تبًّا للحياء الذي يحرمني حلالي! نشبتْ بيننا جميعًا الغيرة، الحنق، الغضب، الحقد، الحساسيات المفرطة وسوء الظن، ليس بإمكاني تنزيه نفسي عن ذلك، ولكنه النزوح، الذي يخرج هباب أرواحنا، وينفث فيها من بشاعته.

ساءت علاقتنا جميعًا، كنت مدركة تماما أن مضيفنا والبقية يعانون من اختناقاتهم الخاصة هم أيضًا، نتشابه في كثير منها ونختلف في بضعة تفاصيل... وبدأتُهم أنا بالانفجار... في ظهيرة يوم غرقت فيه شوارع طرابلس ببرك الوحل، فيما غرقت أرواحنا في برك المجاملات والنفاق المشوه، بدأتُهم بالإعلان عن حالة الطوارئ، أعلنت النفير، إثر صفعة نالت من وجه ابنتي وكادت تذهب بسمعها، كانت من أحد أعمامها، محاولا تصحيح كلمة نابية تعلمتها من ابن عمها الآخر! قررتُ أنه إن لم يكن بوسعنا استئجار "خربة" ما، فليكن الشارع مأوانا. نعتوني بالجنون، تفوهت بألفاظ جديدة على قاموسي أنا أيضًا أسوة بابنتي، ترنح البناء الورقي الذي ظننا أننا بنيناه بدقة خلال الأشهر الماضية، كنتُ من نفخ فيه بهواء نتن أرداه...

لملمت ما استطعت من ثيابي وثياب أطفالي الثلاثة، جرجرت البطانية الوحيدة التي أخرجتها من بيتي، تبعني زوجي لاعنًا، انتقل المسرح إلى الشارع، عمي يحوقل، وسلفي يشد حقائبي داعيًا لي بالرجوع إلى عقلي، صاحب الصفعة يحاول إقناعي أنه كان يتصرف معها كما يفعل مع أبنائه، من أخبره أن هذا يريحني!؟

وأنا؟ أنا فقدت عقلي، انساب مع حبات المطر في الشارع، سمعتُ عمتي تهتف: "المرا هبلتْ!"، إحدى جاراتها ترد عليها عبر النافذة المقابلة: "عين يوخيتي!"... "الله يهديك"، قالها زوجي بهدوء مستجديًا، زوجي الذي أشتاقه ويشتاقني، في لحظة انفضّ فيها إخوته والجيران، بقي فقط خرير مياه المطر النازلة من ميزاب المنزل، وبكاء أطفالي الذين تمسكت بهم جدتهم خلف الباب الموارب، واقفان على الرصيف، اقترحت عليه ما هداني إليه الله نزولا عند رغبته: "خذني إلى واحدة من العمارات الناقصة، تلك التي توقف بناؤها! أن أعيش في شقة بلا أبواب أو نوافذ أهون عندي من تحمل كراهيتي التي تنمو بسرعة، نحو إخوتك، زوجاتهم، أبنائهم، وأبويك!"

وبالطبع، كانت مجرد نوبة جنون، فمطلبي بدا غير منطقيًّا، عدتُ بثقل جديد أنوء به، فأنا قليلة الأدب، طويلة اللسان، المدللة، ضعيفة الإيمان التي تسببت في فضيحة بالشارع، وكان عليّ الاعتياد على أسلوب جديد من "شركائنا" في البيت.
ظنوا أن خوفي من خسارة بيتي بقذيفة ما هو ما أثار جنوني، ومكّن إبليس مني، ربّت عمي على كتفي أمسية ذلك اليوم وحدنا في "المربوعة": "يا بنتي... مادمنا أحياء، مادمنا نملك القدرة على العمل، يمكننا بعد انقضاء هذه المحنة ترميم أو حتى إعادة بناء بيوتنا". لكن ما الذي سيرمم قلوبنا؟ وما الذي سيعيد إحياء الود والاحترام مجددًا بيننا؟

تعليقات