*نُشرت على منصة فاصلة 2017
نصف من سيقرأ حكاية "سرور" حتى النهاية، سيحاول إقناع نفسه بأنها -ولا بد- قصة من وحي خيال الكاتب، ناموا قريري الأعين أصدقائي فهي مجرد حكاية، نعم، سرور ليست شخصية حقيقية.
النصف الآخر سيتألم بشدة، فهو يعلم بأنها حدثتْ في مكان ما من العالم الكبير، ومازالت تحدث، وستحدث إن لم يستيقظ النصف الأول: النائمون! النصف الآخر يعلم أن سرور ليست واحدة، سرور قد تكون فتاة أو صبيّا! هذا النصف يدرك هذه الحقيقة لأنه سمِع عن سرور أخرى، أو ربما لأن بعضًا منه كان سرور... النصف الآخر يدرك بأن هذه الحكاية هي خليط من خطايا عدة؛ ولكن تعددت الخطايا والضحية واحدة.
لم يكن ذنب سرور أنها وُلِدتْ لأم ذهب السكري ببصرها تدريجيا، كانت سرور هي الطفل الوحيد الناجي من بين ستة اجهاضات تعرضتْ لها الأم، في كل حمل وإجهاض فقدتْ جزءً من بصرها، وعندما بدأت سرور تعي كينونتها في هذه الأسرة، لم تعد أمها تلمح إلا ضبابات ملونة، فبات على الفتاة الصغيرة أن تكون العصا التي تتوكأ عليها والدتها منذ كانت في الثالثة من عمرها، بالنسبة لها كان الأمر عاديا، ولم تفكر انها اقترفتْ ذنبًا ما ليختار لها الله هذه الوظيفة، لم يخطر ببالها حتى أنّ ما تقوم به يسميه الكبار "بر الوالدين"، كانت تقوم بعملها فحسب.
ولم يكن ذنبها أيضًا أن والدها كان حشَّاشًا، غائب العقل معظم الأوقات، نحن لا نختار آباءنا، نحن نحبهم فحسب. هكذا اعتقدتْ سرور أنها تحب والدها، رغم أنه لم يكن يبالي بوالدتها بعد أن صارت كثيرة الشكوى، فهو يبيع كل ما تمده لهم يد الإحسان؛ لكي يشتري "مزاجه".
والآن، وبعد أن بلغتْ سرور الأربعين من عمرها، تشعر بأن طفولتها ضبابية، تذكر بصعوبة وبصورة مشوشة تفاصيل ما بدأ يحدث لها عندما كانت في العاشرة من عمرها، تعتقد بأنه قد يكون الأمر بدأ قبل هذا ولكنها –ببساطة- لا تتذكر، تبدأ ذاكرتها الطفولية في تلك اللحظة التي كان فيها والدها منتشيًا حتى أبعد حد، كانت تحبه في تلك الأوقات، فهو لا يبالي بشكاوي والدتها ولا يجد الرغبة في الشجار معها أو ضربها، كان في أوقات النشوة، بعد أن يدخن سيجارتين أو ثلاث، في أجمل صورة تحب أن تراه عليها، يغلق الباب عليهما بعيدًا عن "النكد" كما كان يقول، يمازحها ويضحك حتى مما لا تجده سرور مضحكًا، فتسايره وتشاركه هستيريا ضحكه؛ ولكنه في تلك المرة بتر ضحكاته وطلب منها أن تجلس في حجره، جلستْ فاحتضنها، أحبتْ سرور تلك اللحظة بشدة، وربما هذا ما جعلها تشعر بالذنب لاحقًا، بدأت والدتها تناديها وتبحث عنها على غير هدى، لم ترد عليها ولا فعل هو ذلك، زاد احتضان والدها قوة، بدأ الأمر ينحو على نحو غريب، أبقاها جالسة وصار يهتز بشدة من خلفها، لم تفهم سرور ما يحدث؛ ولكنها تَذكر جيدا كيف سكن فجأة، وأطلق تنهيدة قوية، ابتل سرواله، وابتل فستانها، زادت حيرتها، لم تفسر الأمر، ظنتْ أن والدها فقد السيطرة على بوله، رغم أن الرائحة لم تكن كرائحة البول إلا أنها ظنت أن كل ما يتعلق بوالدها خاصًا به، وأن ما حدث لم يكن إلا مجرد لعبة من ألعابه الغريبة كنكاته التي يضحك عليها بشدة ولا تفهمها هي.
تكرر الأمر مرات كثيرة، أو ربما قليلة، لم تعد تذكر الآن، حتى جاء اليوم الذي قرر فيه والدها تغيير قوانين اللعبة، بدأ يلقيها على بطنها، ويكرر ما كان يفعله بها وهي جالسة، بدا الأمر مزعجا، وكأن جهاز إنذار خفي في فطرتها بدأ يطلق صفاراته، وانطلقتْ الصفارات بالفعل حين شعرتْ بشيء لم تعرف كنهه يشق مؤخرتها، صرختْ سرور بشدة، سألته عما يفعله بها؟ لماذا؟ لشدة الألم لم تستطع النطق بحروف أكثر، صارت تصرخ كحيوان بري شق ظهره سهم غادر، وذلك الرجل الذي تحبه وتناديه "بابا" يصرخ كحيوان بري تمكن من فريسته.
عندما تصل ذاكرتها إلى هذه النقطة، يحدث تشويش بالشاشة، تهز رأسها محاولة نفضها من رأسها، ولكنها لا تفلح، هي لا تذكر بالفعل كم مرة تكرر الأمر، وهل في نفس اليوم أم في أيام لاحقة، ولكنه تكرر، كانت خائفة من أن تبوح لوالدتها عن الأذى الغريب الذي يلحقه بها والدها، لم تعرف سبب خوفها، وهل كان خوفًا حقًا أم أنها لم تعرف كيف تصف الأمر؟
ولكنه تكرر عدة مرات، نزفتْ سرور عدة مرات، وكان يعالجها بطرق أولية، ويضعها لتجلس في حوض به ماء مالح ليلتئم الجرح كما يقول، لم تفهم هي لماذا أصلا هذا الجرح، لم تسأله ولم يبرر لها أو يعتذر أو يشرح ما كان يفعل بها.
بدأ الأمر يخرج عن السيطرة حين لاحظتْ بأنها فقدتْ السيطرة على برازها، بدت مؤخرتها وكأنها ثقب مفتوح على الدوام، علمتْ الأم بأمر الثقب ولكنها لم تسأل عن السبب، طلبتْ من أخيها أن يأخذ ابنتها إلى مستوصف بلدتهم الصغيرة، فهي تعلم أنها لا هي و لا والدها قادران على دفع تكاليف العلاج الذي سيصفه الطبيب، وأنها إن طلبت المبلغ من أحدهم فقد يشتري زوجها بالمبلغ "مزاجه" عوضًا عن دواء ابنته، أما أخيها فلن يتوان عن شراء الدواء لابنة أخته بعد الخروج بها من عند الطبيب فورًا.
لكن الأمر لم يكن مجرد كشف طبي فوصفة علاجية، منظر سرور الهزيل جدا ولونها الأصفر دعا الطبيب لإجراء بعض التحاليل، وأوصى بنقلها إلى مستشفى أقرب مدينة لبلدتهم، كانتْ نتائج التحاليل تدعو للهلع، وبخ الطبيب خال سرور ظانًّا أنها ابنته، في الواقع، خالها نفسه انتابته صدمة عندما ذهب ليقلّها من المنزل، لقد كان معترضًا على هذا الزواج منذ البداية، ولكن أخته المتهورة أصرتْ على هذا الرجل، ولا أحد سواه؛ لهذا لم يكن يزورهم، اكتفى بعض الأحيان بدعوة أخته وابنتها إلى بيته لقضاء يومين أو ثلاثة، وكان أن طالتْ مدة الغياب هذه المرة وحدث ما حدث.
كان برفقة الطبيب ممرضة، اعتادت سرور –لاحقًا – أن تدعوها باسمها: عفاف، لم تكن هيأتها كأهل تلك البلدة، ستعرف سرور لاحقًا بأن عفاف من أهل المدينة المجاورة لهم، والتي انتقلت إلى مستشفاها لمنحها بعض الدم، وعلاج ذلك الثقب، ومنحها بعض الهدنة أيضًا.
عندما انهمك الطبيب في شرح ما يتوجب فعله مع حالة سرور إلى خالها، سألتها عفاف بهدوء: هل حشرتي شيئا ما في مؤخرتك؟ لم تجبها سرور... أصرتْ: هل حشر أحدهم شيئا ما بمؤخرتك؟ جحظتْ عينا سرور...
لماذا لم تخبري والديك؟
بدأت الدموع بالهطول، لم تعرف سرور من أين أتى هذا الفيضان من البكاء؛ ولكنها شعرتْ بأنها اقترفتْ إثمًا.
في المستشفى، تكررتْ زيارات عفاف، لم تعلم في ذلك الوقت سرور سبب كل هذا الاهتمام من تلك الغريبة اللطيفة التي تغرقها بالهدايا وأشهى الوجبات، ظنتْ أنه فضول وعطف النساء فقط لا غير.
قبل أن تخرج بيوم أعادتْ عفاف فتح الموضوع، ولكن سرور لم تجب، لا لانعدام ثقتها أو خوفها؛ ولكنها لم تعرف ما الذي ينبغي عليها أن تقوله دون أن تؤذي والدها! بعد أن فقدتْ عفاف الأمل، أعطتها نصيحة قيمة: إن حاول أحدهم، أيا كان هذا الشخص، حتى إن كان أبوكي (وشددت على تلك الكلمة الأخيرة) أن يلمسك بطريقة تزعجك أو تؤلمك أو تسبب لك شعورا وكأنك اقترفتي ذنبًا فلا تترددي في منعه، هدديه بأنك ستخبرين الطبيب أو معلمتك أو أنك ستخبرين خالك.
لم تقل لها أخبري والدك أو والدتك، فقد كانت بلدتهم صغيرة جدا، كل إنسان يمشي وهو يحمل هويته وصفاته مطبوعة على جبهته، لا بد وأن ظروف عائلتها كانت معروفة، لا بد وأن عفاف خلال فترة بقاء سرور في المستشفى قامت بالتقصي عنها، هذا ما استنتجته سرور.
لم تعد سرور للمدرسة منذ تلك الحادثة كي تهدد والدها بإخبار المعلمة؛ ولكنها هددت والدها مرارا بإخبار الطبيب إن أقدم على إيذائها مجددا، لم يفعل، ولكنه عاد بها إلى لعبتهم الأولى، خافت سرور أن تصده في هذه أيضًا فينقلب عليها أو يضربها كما يفعل بوالدتها.
تعقد الأمر حين تعرفت سرور على رعشتها الأولى وهي في الحادية عشر من عمرها، صارت مهووسة بالأجساد، أجساد الصغار على وجه الخصوص، من هم دون السادسة، تلعب معهم تاركة أقرانها، يتدافعون ويتقافزون وتنتهز الفرص للالتصاق بهذه أو ذاك، في إحدى المرات لم تستطع تمالك نفسها، انقضت في وضع انبطاح على فتاة بعمر الخامسة، ظنت الاخيرة أنهم يلعبون لعبة المصارعة، لكن سرور كانت في عالم آخر، لم يوقظها من نشوتها إلا صراخ والدة الطفلة التي كانت تبحث عنها بعد انتهاء "اللمة" النسائية التي كانت في بيت خال سرور، كانت نظرة الأم غريبة جدا، فيها من الفزع والاشمئزاز الشيء الكثير، عرفت سرور بأن الأم فهمتْ ما يحدث، إذا الأمر معروف، لماذا لكن يبدو أمرا منكرا لهذا الحد؟ وكما هو متوقع، لم تذكر المرأة ما حدث لزوجة الخال، مما زاد من حيرة سرور: "إذا كان أمرا شنيعًا لماذا إذا لم تخبر خالي أو زوجته بما رأت مني تجاه ابنتها؟ إذا فمن حقي ألا أخبر أحدا بما يفعله والدي بي!"
كرهت نفسها، بدأت تؤذي جسدها، تارة بالمقص تارة بسكين الخضروات، أحيانا كانت تجد راحتها في ضرب رأسها بالحائط، انتابتها حالة من فقدان الشهية وتقيؤ الهواء الذي بمعدتها، عاد بها خالها من جديد إلى المستوصف، كانت عفاف موجودة، نُقلتْ إلى مستشفى المدينة مرة أخرى، تكررت الهدايا والوجبات الشهية من عفاف؛ ولكن خروج سرور هذه المرة كان خروجا نهائيا إلى بيت خالها، تدبر الكبار أمر هذه الطفلة التي تعجز والدتها عن رعايتها ويعجز والدها عن حمايتها من الانتحار والاكتئاب كما تصوروا، كانت تلك المرة الأولى التي تسمع فيها سرور بكلمة انتحار، قالوا بأنه يعني قتل الإنسان لنفسه، ولكن لم يخطر ببالها قتل نفسها، كانت تكره جسدها فقط لا غير!
كانت تحن أحيانا لوالدها، لم تحن أبدا لوالدتها فلم تكن بالنسبة لها إلا امرأة تقودها من ركن إلى ركن ومن شارع إلى شارع، عتبت عليه أنه لم يحاول استرجاعها، إلا أنها اعتقدت لاحقا بأنها ارتكبت إثمًا ما جعله يكرهها، هل يا ترى امتناعها عنه مؤخرا أم تهديدها له بفضح فعله فيها؟ صحيح أنه آذاها أكثر من مرة، صحيح أنه يفعل فيها أمرا مشينًا لا تعرف ما تسميه، إلا أنه كان شريكها في طبخ وجباتهم المتواضعة، والتي كانت غالبا صحن مكرونة بيضاء خالية من المرق، كانت تحن للحظات نشوته الأولى، تلك التي اقتصرتْ على نوبات الضحك والتهريج.
هنا في بيت خالها تعلمتْ ألا تشتاق لوالدها، وأن تجامل والدتها عندما تزورها لعدة أيام، وتعلمتْ أن تكبح جموحها تجاه الأجساد تجنبًا لأية مشاكل مع خالها الحنون وزوجة خالها المريبة قليلا، شيئ واحد لم تتوقف عنه، إمتاع نفسها، علمتْ لاحقا من خلال مجلات طبية قديمة مكدسة في مخزن البيت بأن ما تقوم به إنما يسمى بالعادة السرية، أراحها قليلا معرفة مسميات الأمور، إلا أنها لم تتوقف.
الشيء الوحيد الجميل في بقائها ببيت خالها هو توثيق علاقتها بعفاف التي –ولأجل سرور فقط- كونتْ صداقة متينة مع أسرة الخال، بعد عام أو عامين –لم تعد سرور تذكر- سألتها: لماذا تهتمين بي كل هذا القدر؟
أجبتها وكأنها كانت تنتظر هذا السؤال منذ زمن: لأني حين كنت في الثانية عشر من عمري، تحرش بي إبن خالتي الذي كانت تأتمنه أمي للعناية بي أثناء خروجها مع خالتي. فعلها مرارا وتكرارا، ولم أشي به، لأني شعرت بالذنب، ولأني حين كبرتُ تساءلتُ لماذا سمح الله لهذا أن يحدث لي؟... بعد أن تعرفت إليك عرفت السبب، فألمي المتواضع أمام ما حدث معك جعلني أراك بنظرة المجرب، أفهمك، وأساعدك.
لم تتفاجأ سرور من لغة عفاف الواثقة وكأن شخصًا ما –ربما ملاكًا- أخبرها بسرها الذي أتقنتْ كتمانه كل تلك المدة؛ ولكنها تفاجأتْ من شعورها بالحب، لا نحو عفاف فحسب، بل نحو نفسها أيضًا، إذًا هي لم تكن مذنبة في أي يوم من الأيام، إذًا بمقدورها أن تصبح سيدة بجمال وروعة عفاف!
عادتْ سرور إلى المدرسة في الخامسة عشر من عمرها. لم تعش والدتها طويلا إذ نال السكري من كليتيها وتوفيتْ في عملية غسيل للكلى، جاءت متأخرة جدا عن أوانها، كندمها المتأخر على زوجها الذي اختارته.
أما والدها فلم تره إلا صدفة بعد بلوغها عامها العشرين، صافحته وكأنها لا تعرفه لأنه صافحها وكأنه لا يشعر بالذنب! ربما اعتقد بأنها لا تتذكر ما حدث لأنها كانت طفلة، فأرادتْ أن تثبت له نظريته الوهمية.
أصبحتْ ممرضة تتقن عملها مثل عفاف، إلا أنها رفضتْ فكرة الزواج.
تعليقات
إرسال تعليق