أمي لا والدتي


 

*نُشرت على فاصلة 2018

في مناسبة عيد الأم من كل عام، حين كنت لازلت صبيًّا في المرحلة الابتدائية، كانت تأتيني نوبات مغص شديد، وقهر أشدّ! ذلك لأني فقدتُ والدتي في عامي الثاني، لا لم تمت، لقد تزوجتْ بعد وفاة والدي، ورفض أهل والدي أن يربيني رجل غريب، فانتقلتْ حضانتي إلى جدتي لوالدتي، ومن ثم إلى خالتي بعد وفاة الجدة التي لم تعمر طويلا ولا أذكر منها إلا اليسير.
ربما يقول قائل، أمك على قيد الحياة! لِمَ كل هذه "الدراما"؟ ماذا يقول من توفيت أمه؟

أقول ربما كان حاله أقل إيلامًا! ذاك لأنه على الأقل سيفترض أنها لو كانت على قيد الحياة؛ لأهداها حضنًا دافئًا، أو قبلة صادقة على جبينها، وبدلا من ذلك سيدعو لها بالرحمة، ويتصدق على روحها، لا في ذكرى عيد الأم فحسب، بل على مدار العام، أما أنا، فوالدتي على قيد الحياة؛ ولكني لم أكن بقادر لا على طبع قبلة فوق جبينها ولا على أن أدعو لها بالرحمة والغفران، هي التي باعدتْني عنها المسافات وإخوة وأخوات من زوج آخر، قاطعتني، وحرمت منها. 

علاقتنا لم تتعدَّ بضعة اتصالات هاتفية برعاية خالتي التي كانت على الدوام وكالة الدعاية لحنان والدتي الذي لم أره، وكأنها كانت تخشى أن أنساها، وبعدما كبرت، صارت تلك الاتصالات الهاتفية تأتي بعد جولات من الجدال مع خالتي نفسها، خالتي التي فاتها قطار الزواج ولم تبال لأنها -على حد قولها- امتلكتْ الدنيا حين أُحيلتْ حضانتي إليها.

لم أتوقف عن عقد المقارنات طيلة سنوات طفولتي، إذ أن خالتي تعمل ممرضة بنوبات نصفها ليلية، تخلتْ عنها عقب زواج آخر أخوالي، حتى لا أبقى وحيدًا في البيت ليلا، ذلك كان في نفس الوقت الذي ينعم إخوتي من والدتي برعايتها على مدار اليوم والليلة، لم تعرف والدتي يومًا ما الذي أحبه حقًّا كي تشتريه لي في زياراتها القليلة، لم تكن تعرف ذوقي حيال الملابس والألعاب، رغم تنبيهات خالتي الدائمة لها، لم تُصِب يومًا في حدسها -الذي ينبغي أن يكون فطريًّا- حيال السبب وراء تغير صوتي في اتصال هاتفي مثلا، أو تغيّر سحنتي حين كانت تفض النزاعات الطفولية بيني وبين إخوتي، كنت على الدوام أشعر بأنها تنحاز إليهم، أعترف أني كنت شديد الحساسية، وبالغتُ كثيرًا في ردود فعلي، وفسرتُ كثيرًا من تصرفاتها بتعصب واضح وتجاهل ملحوظ، الآن بعد أن تجاوزت المرحلة الثانوية أدرك ذلك، والدتي لم تكن منحازة تجاه أحد، لم تحنُ عليّ كما لم تقسُ أيضًا، والدتي ببساطة كانت تعاملني كابن أختها! وهذا الشيء الوحيد الذي أصابت فيه عين الصواب.

نحن ننضج تدريجيًّا، وتبدأ الألفاظ تأخذ مواقعها الصحيحة في قواميس مفرداتنا تدريجيا أيضًا، لازلتُ حتى هذا اليوم أعجز عن مناداة والدتي بـ"أمي"، بقيتُ أناديها باسمها، وحين أتكلم عنها أقول "الوالدة"، وبعد أن وصلتُ لمرحلة معينة أدركتُ سبب عجزي عن مناداتها أو تلقيبها بـ"أمي"، الأمر لا يتعلق بكوني أنادي خالتي بهذا اللقب، فهناك من ينادي جدته ووالدته معًا به، المشكلة إذًا ليس في عدم قدرتي على تعداده وتكراره، إنما لفهمي المبكر للمعنى الحقيقي لتلك اللفظة، بقيتُ أقول "والدتي" لأنها من "ولدتْني"، ولكني عجزتُ عن مناداتها بأمي لأن هذه الكلمة بالنسبة لي كانت تعني كل ما عرفناه عن الأم وحفظنا عنه الأناشيد وشاهدنا حوله قصص الرسوم المتحركة منذ نعومة أظفارنا، إذ أنه ترسخ في أذهاننا أن ما يلحق بلقب الأم ليس فقط الحمل والولادة، بل هو السهر على راحتنا عند المرض، ومتابعة واجباتنا، التربيت على ظهورنا حين نقع، وحل مشاكلنا، وأكثر من ذلك، والدتي لم تفعل أيًّا من هذه الأمور، فعلتها خالتي، أمي التي لم تلدني.
استقر هذا المعنى في نفسي خلال فترة مراهقتي، وسكنتُ إليه، بتُّ أهدي أمي-الخالة بمناسبة أو بدون مناسبة، لم أعد أضيق ذرعًا بانشغالها نتيجة عملها، إذ أنها كانت تعوض عن غيابها بجرعات مفرطة من المحبة والرعاية، صحيح أنها خلال نوبات عملها النهارية الطويلة كانت تتركني رفقة عائلة جيراننا، ولكن هذا كان برهانًا أكبر بالنسبة لي على أنني أملك أفضل أم في العالم بأسره، فقد شاهدت بعيني كيف أن خالتي هي أم بالنسبة لي أكثر حتى من جارتنا بالنسبة لأولادها!

زدتُ حُبًّا لها وفخرًا واعتزازا بها، لا لأنها اعتنتْ بي، لا لأنها حافظتْ على صحتي وتغذيتي، ولكن لأنها ربتني بحق، لأنها علمتني كيف أصبح فردًا صالحًا نافعًا في حينا، لأنها نهرتْني حين عدتُ للبيت بمقلمة رفيقي في المقعد، وقاطعتْني حين أهملتُ صلاتي، لأنها حرصتْ على ألا يمر أسبوع دون أن تشتري لي عددًا من مجلة ماجد، وتغيبتْ عن عملها بموافقة رؤسائها أو بدونها حين استدعى الأمر حضورها لمجلس أولياء الأمور بالمدرسة، ولأنها لم تسمح لي بأن أعود للبيت بعد أذان العشاء حتى وإن كنت في بيت صديقي الذي يسكن في الحي المجاور ندرس معًا، ولأنها حين كشفتْني أُدخن سيجارتي الأولى من رائحة التبغ في الحمام أتتني بعلبة كاملة، طلبتْ مني أن أشعلها جميعها وأن ألسع يديها بها، أرادت أن أرى التطبيق العملي لما تفعله السجائر بجسدي، وبروحها أيضًا! رميتُ بالعلبة وانكببتُ على كفيها أقبلهما، سمعتُ صوتي يقول لها: "سامحيني يا أمي، رضاك يا أمي"، كرهتُ رائحة السجائر من بعدها.

هل أحمل ضغينة تجاه والدتي؟ بالطبع لا، أنا ببساطة لا أحمل تجاهها أي شعور، أبرها طاعةً لربي أولا، وبرًّا بأمي-الخالة ثانيا وثالثا وأخيرًا، وبِتُّ أشعر بالامتنان بدل الحسد؛ ممتن لأن الله سخر لي أن تربيني خالتي، فنلتُ أمًا حقيقية، بدل الحسد الذي كنتُ أستشعره تجاه إخوتي لحصولهم على والدتي التي تعيش معهم وترعاهم، دون أن تربيهم حقًّا، بمقتضى ما تعانيه حاليًّا من عقوق وانفلات من أكبرهم لأصغرهم!

الآن، وبحكم تجربتي الخاصة ومشاهدتي لنتائج تربية الأمهات تمشي على الأرض بقدمين، بِتُّ أدرك بأن أمك هي أمك بالنتيجة التي وصلتَ إليها أنت، أنظر كيف هو حالك، وستعرف هل أمك "أُمّ"، أم أنها مجرد "والدة"؟

تعليقات