الشلافطية


 

*نُشرت على فاصلة 2019

لوحة سيارتي تحمل رقمًا آخر ليس الرقم 5، وترجمة هذا الرقم تعني أن مسقط رأسي يقع خارج العاصمة، ووجودي فيها يُعتبر تطفلًا على حضارتها ومدنيتها ورُقيّها، وبسبب هذا الرقم صُنّفتُ "شلافطيًّا" من قِبل كثير من السائقين في الشوارع، تعرضت لمضايقات على شاكلة "خلونا في حالنا!"، أو على شكل أغنية "جاي مالريف للعاصمة"، أو تساؤل بريء في ظاهره "سياحة وإلا علاج؟"، تعرضتُ أيضًا لنظرات الاحتقار المرفقة بـ"تي برا يا شلافطي!" عذبة تخرج من بين شفتيّ بعض السائقات الجميلات حين سمحتُ لنفسي بمعاكستهنّ في زحمة مرورية. ملامحهن تحوّلت إلى نظرات اشمئزاز حين هتف أحدهم غاضبًا: "تي قدّملنا، جاينا من برا ويزاحم فينا!"، لربّما رغب في أن يكون مكاني حينها، ومن باب "يا نلعب يا..." لا يهم، المهم أنني الشلافطي في نظرهن. رغم كل هذه المواقف، لم أتعرض لهجمة شرسة مباشرة كالتي تعرضتُ لها ظهر هذا اليوم…

"بنستريحوا من الشلافطية 3 أيام العيد، وأخيرًا بنقعدوا فيها الطرابلسية الأصليين" هذه الجملة هتف بها سائق السيارة الواقفة أمامي للسائق الواقف خلفي في الطابور الطويل الممتد بشكل أفعواني نحو محطة البنزين؛ فأنا من وجهة نظره سبب كل المشاكل، يعني هذا أنني السبب في ازدحام محطات الوقود والدكاكين والمخابز والمصارف، والدليل؟ لوحة سيارتي.
نزلتُ من سيارتي مجاريًا لمن أمامي ولمن خلفي بعد إطفاء محركها، اختلستُ نظرة نحو لوحتيهما بينما هممت بإشعال سيجارتي، كلتاهما مُخمّستان. تعالى صوت الرجل مجددًا: "أغلب الزحمة من اللي خاشين جدد، لا يكلوا لا يملوا، 24 ساعة في الطرق يلودوا".
قالها وهو ينظر نحوي في إشارة واضحة، بدا الارتباك على صاحبه، حاول أن يتمتم له يردعه عن غيه؛ ولكنه أبى أن يصمت، وكأن لحظة انفجار بركان عنصريته الخامد منذ عقود قد حانت، تحدث إليّ عن طريق تظاهُره بمخاطبة صاحبه، تحسّر على طرابلس النظيفة قبل هجوم "البرّانية" أيام الخمسينيات، تحسّر على -ما اعتبرها- أمجاد "المدينة القديمة"، وأيام "الحواتة"، وخيرات "سواني" سوق الجمعة، تحدث وكأنه عاش مائة عام في طرابلس، لا حوالي الخمسين كما بينتْ هيئته.
ربما استفزه برودي وسيجارتي التي ألقيتها مع علبة سجائري الفارغة تحت قدمي أدهسها، سيجارتي كانت القشة التي قصمت ظهره، ودفعته لمخاطبتي مباشرة، مُتجهًا نحوي بعينيه الجاحظتين، مهددًا بسبابته:
"تبي تعيش معانا ولّا؟ ما توسخش بلادنا، وإلا ارجع لبلادك!" قالها ملوحًا بيديه في وجهي.
همّ بالانصراف؛ ولكن صمتي دعاه لمواصلة ما بدأه، التفت نحوي مجددًا:
"تي برّوا يا راجل وإنتوا ادّاعكوا فينا في كل تركينة ما عاش عرفنا وين نطيروا!".
لم أنبس بكلمة، وجدتُني أبتسم دون إرادتي، لم أتعمد مواصلة استفزازه؛ ولهذا استمرّ بصوت أعلى وأكثر حدة:
"تضحك؟! إيه طبعًا! آخخخ... وكان نحكمها يوم بس، نردها للعائلات العريقة اللي كانت في الأربعينات بكل! أيامات الرُّقيّ، أيامات الراس يتواطى قدام اللي أكبر منك مش تمد وجهك تضحك!".
تظاهرتُ بالتفكير قليلًا ممسكًا ذقني المشذّب، متأملًا السُّحب، بينما استغرقه الأمر دقيقة لتعديل ربطة عنقه ومسح نظارته محاولًا تمالك ما تبقى من أعصابه.
"يا أستاذ، شن رأيك كان حكمت تردها للعثمانيين؟".
اعتبر ردي قلة أدب، كاد يصفعني لولا تدخل صاحبه وملاحظة بعض السائقين في الطابور لنا.
سألته إن كان سبب غضبه أن عائلته العريقة لم تكن في حينها قد سكنت طرابلس بعد؛ فازداد غيظه: "وإنت شن عرّفك باللي سكن طرابلس الأول يا فرخ؟!".
"لأني طرابلسي أنحدر من أسرة تسكن المدينة القديمة منذ ذلك الوقت".
سميتُ له كنيتي، وموقع بيتنا المهجور في "زنقة بورقيقة"، هدأت العاصفة فجأة، امتقع وجه الرجل وارتعدتْ فرائصه، انسحب قليلًا ليتأكد من رقم اللوحة، تأملها في حيرة...
"ما تشبحش للطارقة يا حاج... هذي كمين".
قلتها ضاحكًا وركبتُ سيارتي متناسيًا فكرة ملئها بالوقود اليوم، فكما قال الحاج، أيامٌ قليلة وتصبح شوارع العاصمة خاوية على عروشها؛ إذ يرحل معظم سكانها الذين يعمرونها إلى مدنهم الأم كي يشاركوا أقاربهم فرحة العيد، بينما نُمضي نحن عيدنا في تأمل منظر الشوارع الفارغة والتمتع بها وتصويرها.

تعليقات