عالم الظل



*نُشرت على منصة فاصلة 2017


لم أعد مجرد نزيلة في قسم الجراحة العامة، في الدور الخامس من البرج الأول، بمركز طرابلس الطبي، لقد صرتُ من أهل الدار إن صح التعبير. أنهض بعد أن تبدأ الشمس بإرسال أشعتها، أمشط شعري وأغير ثيابي وأجلس في انتظار الـ"راوند"، أي الجولة التي يؤديها الأطباء رفقة المتدربين والممرضة المسئولة عن طاقم التمريض. يسألونني "كيف حالك؟"، فأجيبهم أني "بخير"، فقد أدركت لاحقا بأن أية شكوى هم على علم بها، وتذمري لا يقدم ولا يؤخر من سرعة تشخيص حالتي. تمر الدقائق الأخرى وهم ملتفون حول سريري، في محاضرة إضافية يلقيها كبيرهم عن حالتي المرضية المجهولة حتى اللحظة، يهزون رؤوسهم، يتكهنون، ثم ينصرفون، وأبدأ أنا يومي بعدها بممارسة نشاطاتي التي خلقتها بنفسي، كي أتأقلم مع هذا السكن الجديد.

أربعة أشهر مرتْ، وأنا راقدة على الفراش، الذي غيرته مرتين، في المرة الأولى نقلوني من حجرة بسعة ستة أسرَّة إلى حجرة أصغر بسعة ثلاثة أسرَّة، هذا كان بعد شهرين من إقامتي ضيفة بين أطقم التمريض والأطباء في ذلك القسم، كانت بادرة تدليل لي، وبسبب "عشرة الماء والملح" التي نشأتْ بيننا، ومنذ أسبوع مضى، نقلوني لحجرة فردية كأقصى فعل حب من الممكن أن يعبروا لي فيه عن تعاطفهم مع حالتي غير المشخصة حتى الآن، واحتراما منهم لصبري الذي يعتقدونه بطولة تصدر من فتاة تكاد تبلغ ربيعها العشرين عوني أعترف، لم يكن صبري بطولة بقدر ما كان وسيلة أتجنب بها دموع أمي، وحزنها عندما تراني عاجزة.

لم تكن الحجرة الفردية تتميز عن بقية الحجرات إلا بأمرين لا ثالث لهما: العزلة، والحمام الخاص. أما بالنسبة للعزلة، فقد كنت أحتاج إليها بعد أن سئمت ضيوف الغفلة للأسرَّة المجاورة لي، أولئك الذين لديهم "معارف" يمكنونهم من الدخول لزيارة أحبابهم في أي وقت خارج مواعيد الزيارة، دون مراعاة لخصوصية جيران أحبابهم في نفس الغرفة! لم يكن لأهلي "معارف" من ذلك النوع؛ لذا كنتُ أشعر بالضيق –وربما بالغيرة- من جاراتي، فيما يخص أمر العزلة فقد ارتحت من هذه الناحية؛ ولكني اشتقت للأحاديث التي تفيض من قلوب الجارات بكل صدق، لم يكن الأمر قابلا للتفكير والتريث في مدى الغوص في خصوصيات عائلاتهن، فكل منا كانت كتابا مفتوحا لجاراتها، كل منا حفظت أقارب وأهل الأخرى، وكل منا استطاعت ان تحزر ما إذا كان زائر جارتها شخصا عزيزا عليها، أم عبئا ترجو الخلاص منه. كنا نفهم بعضنا بالغمز، فإذا كان ضيفا غير مرغوب فيه، نعبر عن تعبنا، ونحاول أن نفهمه بأن جارات مضيفتك يطلبن الراحة، فينصرف خجلا معتذرا، وتعقب انصرافه عبارات الشكر، وهذه الحالة كانت تخصنا نحن الذين تطول إقامتهن؛ لذا لم نكن نكلف أنفسنا عناء التعرف على الحالات التي تدخل لغرض إجراء جراحة في الزائدة الدودية أو المرارة؛ لأن زياراتهن لن تطول.

ولكني تغلبت على عقبة عزلتي عنهن بزياراتي لحجراتهن خارج مواعيد دوام الأطباء، وخارج مواعيد الزوار. كانت أحاديث الليل ساحرة لا تُقاوَم، رغم أضواء النيون التي تسطع في ديارنا، ورغم تقريع الممرضات لي بالعودة لغرفتي كي لا تجد الممرضة نفسها تبحث عني في مواعيد الدواء، كنتُ أطمئنها قائلة: "وهل تعتقدين أن صوت عربة الدواء المزعج في الممر لن ينبهني؟ قومي بتزييتها أو اطلبي من الفنيين الذين يأتون صباحا فعل ذلك!"، جميعهن كن يضحكن من ملاحظتي، ولا يعرنها أي اعتبار، رغم أني كنت جادة في تلك الملاحظة.

بل كنتُ خلال ساعات الصباح، وحتى الظهيرة، أحاول تمضية وقتي في مساعدة الممرضات، بكتابة قائمة النزيلات مثلا، أو بالرد على استفسارات أهالي النزيلات الجدد، وأحيانا كنتُ أقدم بعض المساعدة لفتاة المطبخ، في توزيع الوجبات ثم في تجميعها وتنظيفها. لم يكن هناك ما يكشف كوني مريضة في القسم إلا الإبرة العالقة في يدي أو ذراعي، أتبادل الأحاديث مع كل من عرضت المساعدة عليهن، فأتعرف إلى عوالم أخرى، قصص كفاح بين العمل واستكمال الدراسة، وقصص تحدي لظروف عائلية تبدوا بلا حل! قصص حب عاجز أمام تتويج نفسها بالزواج، حتى أنه كانت تأتيني قصص من أقسام أخرى في المركز. تعرفت إلى ممرضات من أقسام اخرى، يأتين لزيارة صديقاتهن الممرضات بقسم الجراحة، ويحكين لي عن قصص العذاب والألم، لمريض جاءهم بعد فوات الأوان، أو لمريض قديم –مثلي- تم تشخيصه بعد فوات الأوان!

وعودة لمزايا الحجرة الفردية التي فضلوني بها، فيما يتعلق بخصوصية الحمام، لم تكن إلا وهمًا، ذلك أن بعض "نزيلات" الغرف المجاورة ومرافقاتهن كن يشاركنني حمام غرفتي الخاص، دون إذن مني، يكتفين بالطرق على الباب، ثم إطلاق السلام، ودخول الحمام وكأنه أمر عادي، كُنَّ يتقززن من استخدام الحمام الكبير المشترك، دون أي تفكير في "نزيلة" هذه الغرفة، فلربما أنا أيضًا أتقزز من استعمالهم للحمام الذي تشتري له والدتي في كل زيارة شتى أنواع المنظفات والمعقمات، خوفًا من أن تكون أحدى "المستخدمات المتطفلات" حاملة لفيروس ما، خشيت أمي أن أخرج من "الطبي" بكوكتيل من الأوبئة وقد دخلته مريضة فقط بالتهاب –لم يتم تشخيص أسبابه- في أمعائي. وفي يوم ما، وبعد عِشرة طيبة مع ممرضات القسم، خطرت على أمي فكرة ظنت أنها ستقيني من المتطفلات، فطلبت من الممرضات تعليق ورقة مكتوب فيها "داء الكبد الوبائي c" على باب حمام حجرتي، علها تخيفهن فيتجنبنني. خف عدد المتطفلات على حمامي بالطبع؛ ولكنه لم يُثنِ صاحبات ذلك الداء من استعماله، وبدل أن تقيني تلك الورقة شر التطفل على حمامي، صارت دليلا لمعرفة أصحاب ذلك المرض من بين القاطنات في القسم.

فما زاد ذلك أمي إلا هلعًا، وما زادها إلا إصرارا على مغادرتي ذلك الصرح الذي يقدمون لنا فيه علاجا مجانيا مقابل السماح للأطباء الجدد باكتساب خبرتهم من خلالنا، أصرت أمي على مغادرتي حتى إن لم يتم تشخيص حالتي بعد، حتى إن كان الجانب الأيمن السفلي في بطني مثقوبا، تخرج منه الفضلات التي كان يفترض بها أن تواصل مسيرها إلى مخرجها الطبيعي! حتى وإن كنت بسبب ذلك الثقب محرومة من الطعام، مجبورة على السوائل فقط، حتى وإن كنتُ أحتاج لكل إبر المضادات الحيوية يوميا، بالإضافة إلى "ماء التغذية" مغروسة مرة في ظهر يدي، ومرة في ذراعي، ومرة في رسغي، وآخرها في وريد بقدمي، بعد أن لفظت بقية أوردتي الإبرة الجديدة، وكأنها تعلن احتجاجها عن بقائي طيلة هذه المدة دون تشخيص، وعن مواعيد منظار تم إلغاؤها، وصور ملونة تم إتلافها، وجهاز رنين رفض أن يعمل بلا مبالاة واضحة أمام صومي وصبري وكبريائي.
كنتُ مترددة حيال مغادرة المستشفى، لم أستطع تحديد سبب ترددي، هل لأني اعتدت الوجوه هنا؟ لا وجوه المرضى بالطبع، فقد استقبلت وودعت خلال إقامتي أفواجا من النزيلات، واعتدت ألا أقيم علاقة صداقة حقيقية مع أيا منهن؛ لكني أقصد وجوه المتدربين والمتدربات الذين كنت أخشاهم وفي نفس الوقت أشفق عليهم من كراهية المرضى وأهاليهم لهم، فالكل هنا يريد طبيبا صاحب خبرة، ولكن صاحب الخبرة هنا عليه أن يسمح لقليل الخبرة بالتجربة، كي ينال خبرته، كما حدث معه هو عندما كان مبتدئا، كيف للخبرة أن تُكتسِبْ دون تجربة، ودون خطأ؟ كلنا نعلم هذا؛ ولكننا غير مستعدين لنكون نحن التجربة، والأصعب من هذا أن يقع علينا نحن الخطأ! كنت أشفق خصيصا على الطبيبات المتدربات، إذ أن بعض المرافقات كن –جهلا أو ربما مكرا- ينادينهن بـ"سيستر"، أي الممرضة، كان الأمر يستفز بعض أولئك المتدربات الطموحات، فهن يرين أنفسهن أفضل مقاما من الممرضة، فهن مشاريع "طبيبات"! وبعضهن كن يتجاهلن هذا الخطأ، في سبيل خدمة المرضى وتعلم المزيد عن تفاصيل حالاتهن الصحية، وكنتُ أنا أتسلى بالتعرف على كل متدربة، والحُكم على شخصيتها بهذه الطريقة.

ليس أولئك فقط، فقد اعتدت وجوه الممرضات أيضًا، بعد مراحل من الشجار في بداية إقامتي، وبعد فترة من انعدام الثقة التي كلفتني قلة النوم، فقد كنت أحرص على استجماع كامل صحوي عندما يوقظني صوت عربة الدواء ليلا، كنت أخشى أن يحقنَّني بدواء غير دوائي الذي حفظت اسمه ولونه ومقدار جرعته في الإبرة، خاصة بعد حدوث هذا الخطا أمامي، والذي كاد ان يودي بكارثة لولا تيقظ مرافقة إحدى النزيلات، أذكر أن الممرضة لم تعتذر، بدلت الدواء في صمت وكأنها تبدل تسريحة لم تعجب الزبونة! أو كأنها كررتْ هذا الخطأ سابقًا، ولم تعد تشعر بالخجل من ارتكابه مرارا وتكرارا!
كنت أمقتهن في البداية، ورغم اعتيادي عليهن واعتيادهن علي، إلا أن هذا لم يكن السبب الذي جعلني أكف عن التدقيق في علاجي، كل ما هنالك أنهن قد حفظن دوائي عن ظهر قلب، بل كانت الواحدة منهن تتذكر أن تأتي به من المخزن حين يوشك على الانتهاء، حتى إن كنتُ الوحيدة في القسم التي تُحقن بذاك الدواء. تكونتْ ألفة غريبة بيني وبينهن، لا الليبيات فحسب، بل حتى الكوريات والهنديات، ولن أنسى صورة زوج وأولاد تلك الممرضة الهندية، تبا لقد كان زوجها كأبطال بوليوود الذين اعتقدت أنه لا وجود لهم إلا على شاشتها!
أهذا ما يجعلني أتردد في ترك "حقل التجارب" هذا –كما تسميه أمي- أم هو أمر آخر؟ كخوفي من الخروج بثقب في بطني دون وجهة محددة بديلة، والأطباء الاختصاصيين في العيادات الخاصة هم أنفسهم رؤساء الأقسام هنا؛ ولكن مالك الذي تدفعه في العيادة الخاصة هو ضمان ألا يمسَّك إلا هذا الدكتور الاستشاري صاحب الخبرة.
ربما كان السبب ببساطة هو ذلك الفضول الذي يدفعني لمعرفة المزيد عن العوالم الأخرى، للأطباء، والممرضات، والمرضى، بكل خلفياتهم الثقافية والإجتماعية، من كل المدن القريبة من طرابلس، أو البعيدة قليلا عنها، بكل لهجاتهم وحتى لغاتهم التي جعلتني أعتقد في البداية أنهم غير ليبيين، لقد اكتشفت ببساطة العالم القابع خلف كتفيّ أمي التي لم أفارق حضنها قبل هذا المرض، العالم الذي لم أره في قصص "الليدي بيرد"، ولم أسمع عنه في حكايات صديقاتي في الإعدادية أو الثانوية، العالم الذي يعيش في الظل، فإذا طلعت الشمس تزاور عنه ذات اليمين، وإذا غربتْ تقرضه ذات الشمال.
لقد اكتشفت ببساطة أن صرحًا عظيما ومركزيا كـ"مركز طرابلس الطبي"، يبدو للناظر مجرد ثلاثة أبراج عريضة باردة كلونها؛ ولكنه في الواقع عالم يحترق فيه الكثيرون، بعضهم يحترق مرضًا، بعضهم يحترق عرقًا للقمة العيش، بعضهم يحترق شوقًا لحبيب، بعضهم يحترق دموعا لفقيد، بعضهم يحترق خوفًا من التجربة التي قد تكلفه نفسًا، وبعضهم –مثلي- يحترق حيرة، بين أن يبقى مجانا مقابل أن يكتسب أحدهم خبرة، أو أن يخرج ويبيع من لحمه، كي يدفع المال في عيادة خاصة لصاحب الخبرة.

تعليقات