*نُشر على منصة فاصلة، 2017
أقسم أني تخيلت نفسي أُمًّا أفضل! أقسم أني لم أتخيل بأن الأمومة -بالرغم ما سمعت عنها من كونها صعبة- بهذا القدر من الاستحالة! بهذا القدر من قلة النوم، وإنكار الذات، والتوتر اللانهائي، والتيقظ المتواصل! لم أتخيل أبدا بأني سأصل لمرحلة ما – بعد ثمانية سنوات من زواجي– أغلق فيها باب الحمام على نفسي من أجل بعض الهدوء، وبأني كطفل مدلل سأتشاجر مع صغاري الذين لم يتجاوز أكبرهم السابعة وكأني من أقرانهم؛ وأني سأركض لغرفة نومي مغلقة الباب تاركة العنان لدموعي ونشيجي. إنها ليست دموع الألم يا قوم، وليست دموع الندم كذلك. إياكم أن تفهموني خطأ! إنها دموع المحارب الذي يبحث عن هدنة، عن أرض فراغ محايدة ينام فيها بسلام، عن فرصة ليلتقط فيها أنفاسه، وليعيد حساباته، فلربما كان يخوض معركة خاطئة! ربما كان يستخدم أسلحة في غير موضعها! ربما ببساطة هُزم في عُقر داره!
أجل، كثيرا ما ينتابني شعور بأني أقحمت نفسي في أمر لست أهلا له، ربما لسنا جميعا مؤهلين لنكون آباء وأمهات، ربما لست جديرة بأن أكون أمًّا لأطفالي! الأمر ليس بسيطا كما يبدو، قد تعتقد إحدانا وهي مقبلة على هذا الأمر بأن حله يكمن في الاستعانة بخبرات من سبقونا؛ ولكن صدقوني هذا الأمر لا ينفع إلا في النزر اليسير واليسير جدا. لكل طفل يأتي لهذا العالم كتيب إرشادات خاص به، وللأسف، فإن هذا الكتيب لا يصل إلينا جاهزا، ونحن من يقوم بكتابته، والإرشادات لا يتم الحصول عليها إلا كلمة كلمة، حرفا حرفا، بالتجربة والمحاولة، بالألم والسهر، وفي أحيان كثيرة، باللامبالاة أيضا!
وأنا هنا عندما أذكر “الألم“، لا أقصد ألم الحمل والولادة والمخاض، أبدا، فهذا أيسر ما في الأمومة، بل أعني ألم الصبر على خدمة هذا الطفل قليل الحيلة في أعوامه القليلة الأولى، ثم انحسار هذا النوع من الصبر تدريجيا، ليحل محله الصبر على كبريائهم، وأنانيتهم، وعلى غطرستهم البريئة، والصبر على تربيتهم إذا أردت أن أكون دقيقة. العناية بهم تستوجب جهدا بدنيا عظيما، والتربية تستلزم جهدا نفسيا مهولا، وكثيرا ما شعرت بالوهن، بدنيا ونفسيا، ووددت لو استسلم؛ ولكنني استدرك الأمر. وهنا، في هذه المساحة المسماة بالأمومة، لا مكان للاستسلام، فإما أن تحاربي، أو تحاربي!
كثيرا ما نسيت أن آكل في زحمة أشغالي “الأمومية”، والمنزلية، والعملية. نسيت أن أشرب الماء، وأن ألهو معهم، ونسيت أيضا أن أمارس شغفي الخاص الذي يكون شخصيتي. كثيرا ما سخطت لأن النصيب الأكبر من هذه المعاناة من نصيبي لا من نصيب والدهم، رغم رأفته بحالي أحيانا، واستلامه لمهمة إعدادهم للنوم أو الخروج بهم بعيدا عن نفسيتي المنهارة، إلا أنني كثيرا ما شعرت بأنني ضحيتهم! ليس لهم بالمعنى المباشر، بل ضحية لأنوثتي، وغريزتي التي خُلقت عليها! استغفرت كثيرا من هذا السخط أكثر من استغفاري على ذنوبي الأخرى مجتمعة!
الرد الطبيعي طبعا لإنسانة تشكو من هذه الحالة هو: “احمدي ربك؛ فغيرك مشتاق لهذه النعمة”، يعتبرون فضفضة من هذا النوع “تشفّعًا” أو “ندمًا”، لهذا لا تشتكي الأمهات إلا لقليل من المقربين، ولا يعترفن بهذه المحنة العظيمة التي تعصف بحياتهن، تجعلهن يتخلين عن كثير من طموحاتهن، بل وتسبب في وهن صحتهن البدنية والنفسية على حد سواء، وهذا مثبت علميا. أتعتقدون أنها تغذي رضيعها مجانا مثلا، وأن هذا الحليب الذي تعطيه بمحبة لفلذة كبدها يخرج دون أن يأخذ معه من جسدها شيئا؟ قيسوا على ذلك، وكلامي هذا لا يقع تحت بند المنّ على أطفالي أبدا، لو تسنى لي ارضاعهم أكثر لفعلت، ولو تسنى لي أن أتحمل كل ما مررت به مجددا لأجلهم لفعلت دون أي تردد.
إلا أني كعادتي إنسانة عملية، أبحث دوما عن مخرج من أي وضع نفسي لا أرتاح فيه؛ ولكني في هذا الوضع، وكما متوقع، لم أجد الحل أو المَخرج لمعاناتي، إلا بالتعامل مع نفسي، فالحلّ ليس خطوات عملية أتَّخذها في بيتي، ليس بالاعتماد على أحدهم مثلا لمشاركتي مسؤوليتي، فأنا أعلم جيدا -وقد رأيت هذا بعيني حين حاول آخرون مساعدتي- بأني لن أرضى عن نفسي إلا إذا تحملت المسؤولية بنفسي، حتى وإن تظاهرت بغير ذلك، ”واللي ما ياكل بيده ما يشبع” كما قيل في المثل الشعبي.
تمنيت مرة أن يكون لدي عقار عجيب كذلك الذي تناوله “سينشي كودو”؛ ولكن بتأثير معاكس، أي أنه عقار يجعل الطفل شخصا بالغا، إلا أنه عند التفكير في الأمر بعمق، اكتشفت بضعة أمور:
. إن هم كبروا سريعا لن يتسنى لهم أن يحملوا عني ذكريات كتلك التي أحتفظ بها كقطع الماس نفيسة عن أمي وأبي في طفولتي..
. لن تتسنى لهم الفرصة ليروا أمامهم قدوة تعينهم على المضي قدما في حياتهم العملية..
. لن تتسنى لهم الفرصة كي يتعلموا كيف يكونون آباء وأمهات لأطفالهم..
والأهم من كل ذلك، لن تتسنى لهم الفرصة كي يحبّونني كما أحببتهم. أليس نيوتن القائل بأنه “لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومضاد له في الاتجاه”؟
ارتحت مع هذه الأفكار، ووطّنتها في نفسي، ووجَدْتها تعينني على التضحية، بل وغيرتْ من نظرتي لنفسي، فأنا لست ضحية غريزتي، بل أنا إنسانة مُنحت شرفا عظيما، بطولة تسمى تقنيا “الأمومة”، إنها ُمنـــــحة عظيمة، تبدأ كمحــــنة وتنتهي -إن شاء الله- بحصاد وفير، سأراه في أعينهم حين يكبرون.
تعليقات
إرسال تعليق