تعتقد أن طفلك كائن تملكه، فيلبس ما تقرره أنت، ويأكل ما تقرره أنت، يستحم وقت ما شئت أنت، وبيدك أمر كل معلومة يتلقاها، وكيف يتعامل معها، تعتقد أن لك مطلق الحرية في توبيخه بالنعوت التي تراها مناسبة، تعتقد أنه سيكبر ويدرك لماَ كنت تنهره عن هذا أو ذاك فلا تُكلّف نفسك عناء الشرح، تعتقد أنه سيعيش حتى يدرك لمَا ضربته حين رن جرس الجيران وركض هاربًا، تعتقد أنه سيغفر لك وينسى تحاملك عليه حين أكل من صحن جده دون إذن منه، وأنك لست مدين له بأي إعتذار، حتى إن كنت مخطئًا بحقه إذا قذفته بنعلك لأنه أصدر ضوضاء أفسدتْ قيلولتك ! تعتقد كل هذا وتؤمن به دون وعي منك، فقط لأنه من صلبك، ثم حين يرحل عن الدنيا وهو لم يبدل بعد أسنانه اللبنية تدرك حقيقة الأمر.
تدرك أنه كان إنسانًا مستقلاً بذاته رغم إلتصاقه بك، إلتصاقه الذي كان يزعجك أحياناً، تدرك أنه كان يملك شخصية تميزه عنك وعن غيرك وغيره، كان يملك ذائقته الخاصة، تتذكر كيف كان يكره هذه الأكلة أو يعشق تلك، تتذكر تلك العلامات الأولية التي نبأتك بهوايته، تتذكر لوحته الأولى التي رسمها على الحائط، وقتها إكتفيت بتوبيخه عليها، وركزت فقط على الطريقة المثلى لإزالتها عن هذا الحائط، وقتها لم تفكر إلا في لعن ذلك القلم الذي وقع بين يديه، والآن بعد أن صار الأمر ذكرى لن تتكرر أبداً، تتذكر أن تلك الجدارية الأولى لطفلك كانت عبارة عن طفل يشبهه، يرتدي نظارة بعدسات مدورة كنظارته، ويمسك بقطة، تلك كانت آخر وسائله لاستجدائك كي تسمح له بتربية القطة التي وُلِدتْ حديثًا عند الجيران، أبدع في رسم التفاصيل، جدارية لا تخبر عن عمره، مازالت آثارها التي فشلتَ في إخفائها ولم تتفرغ لإعادة طلائها تبدو واضحة، وتدرك أنه إن تسنى له الوقت ليكبر، لكان سيصبحُ رساما مُحبًا للحيوانات الأليفة، ربما كان سيمضي جل وقته في رسم الحيوانات كما نبأت بذلك كراسة الرسم الأولى التي أهديتها له في عيده السادس والأخير.
ليس هذا فحسب، بل ستتذكر كيف بدأ يكتشف قبل رحيله بقليل شغف جديد، كان قد بدأ يكتشف الموسيقى، بكل آلاتها وأصواتها، كان كل شيء يرن يجذب انتباهه، وصار الموضوع المسيطر على لوحاته بعد الحيوانات هو صور لآلات موسيقية، أو لرجال يحملون مزامير، كان قد رآهم في حفل زفاف عمه ورقص رقصته الأولى على إيقاع تلك “الزكرة”**، تتذكر رقصته الأولى المرتبكة التي كان يحاول فيها تقليد حركات كل الراقصين من حوله في وقت واحد، فبدت رقصة هجينة، أضحكَتْ كل الحضور وقدمتْ لهم متعة مشاهدة مجانية.
لماذا نهرته عن شراء تلك “الدربوكة”* ؟ لماذا حاولتَ جاهدًا أن تنسيه شغفه الجديد ؟ لقد قررت أن تعامله كقطعة صلصال، وأن تتحكم في الصورة التي سيكون عليها حين يكبر، أعجبتك صورته المستقبلية كرسام، وكإنسان عطوف على الحيوانات، فهذا يتناسب مع صورة الرجل المثقف العصري، ولكنك رفضت شغفه المتعلق بالموسيقى، أردت أن تصده عن تلك “الدربوكة”، الآلة الموسيقية الأولى التي أراد امتلاكها، الأرخص، هكذا أخبرك بعد أن تحججت سابقاً بغلاء أسعار البيانو والعود وحتى المزمار، كانت آخر حججك بأن “الدربوكة” للفتيات ! هل استفزتك صورته شابًا يمسك طبلة ؟ كنتَ أنانياً تنظر لمستقبلك أنت والصورة التي سيعكسها عنك طفلك حين يصبح رجلًا، استبقتَ الأحداث، لم تسمح له بالتجربة، ألم يخطر ببالك بأنها قد تكون شغفا عابراً في جملة ما يكتشفه في هذه السن المبكرة؟ ترى لو كنتَ تعلم بأنه سيرحل عن دنياك، وبسبب هذه “الدربوكة” تحديداً، هل كنتَ ستمنعه منها؟ لا، إطلاقًا، كنت حينها سترغب في تلبية كل طلباته لأنك لن تفكر إلا في إسعاده فقط لحظتها، كنت ستتصرف كأب حقيقي لا كأب أناني.
لو كنتَ تدري إنها أمنيته الأخيرة ربما لم تكن لتجذبه بقوة وتنهره وسط ذلك الحشد، لما خجِلتَ من طلبه أمام جمهرة النساء اللاتي أتين لشراء حناء وزينة وألعاب “المولد النبوي” في ذلك الدكان الصغير، ما أدراك بأنهن كن يشترين الطبول فقط لبناتهن؟ إطّلَعْتَ على عوائلهن ؟ لم يكن طفلك الشغوف من النوع المتمرد، ما الذي جعله ينتزع يده من قبضتك ساخطًا تلك اللحظة ويهرع للشارع، وكأنه أراد ألا يخلف موعده مع تلك السيارة التي دهسته ! وكأن شخصًا ما همس في أذنه أن أسرع حان وقت قطافك، فلبَّى !
تلوم نفسك، يواسونك ويخبرونك بأن لكل أجل كتاب، وبأنه حتى إن نال “دربوكته” فتلك ساعته، ربما كان السيناريو سيختلف قليلًا، ربما كان سيهرع إلى الشارع سعيدًا بدل أن يكون ساخطاً، وفي الحالتين لم تكن السيارة لتخلف موعدها، ولم يكن ملك الموت ليخذل ربه.
تجيبهم، “على الأقل كان سيرحل سعيدًا، راضيًا عن والده”.
_________________________________
* الدربوكة: هي نوع من أنواع الطبول، يسمونها في دول الشام “دِربَكًّة”.
** الزكرة: نوع من أنواع الفنون الموسيقية الشعبية في منطقة غرب ليبيا

تعليقات
إرسال تعليق