سور المقبرة

 


كانا يلتقيان كل ليلة عند نفس الركن المهمل من سور المقبرة، ذلك الركن الذي لا يمر بجانبه أحد نهارًا لعدم وجود رصيف، قد تُركن بجواره إحدى السيارات، تلتصق به فينزل السائق من الجهة الأخرى، كثر لا يعلمون أنه امتداد لسور المقبرة التي تفتح بوابتها في شارع رئيسي من شوارع هذه المدينة المتخمة بالأحياء والأموات.
اما ليلًا، فقد كان ذلك الركن هو خاصتهما، رفيقان، جمعتهما "شيشة بوخة"، ولفة "حشيشة"، كانا يعتبران نفسيهما أهون المذنبين، برّرا لنفسيهما بأن "البوخة" مجرد شراب تراثي، استشهد المثقف بينهما بأن يهود المدينة يومًا ما كانوا متخصصين في صناعته منذ عهد القرامنلية، أما الحشيش فما هو إلا أحد أنواع حشوات السجائر، بل إنه أصل السجائر، هذا ما أكده الآخر الذي اشتهر بفلسفته التي تفتقر إلى المصادر العلمية!

ما كان يجعلهما يندمان صباح كل يوم هو تبولهما اللا إرادي نهاية كل سهرية على سور المقبرة، كان كلاهما يشعر بأن للمكان قدسية ما سيُحاسبان يوما ما على انتهاكها، إلا أن الأمر كان يخرج عن السيطرة كل ليلة.
اقترح المثقف ذات يوم أن يغيرا ركنهما، احترامًا للأرواح الساكنة هنا، إلا أن الفيلسوف اقترح ان يكتب على الحائط "الرجاء عدم التبول هنا"، كي تكون تذكيرا لهما كل ليلة، أقنع الفيلسوف صديقه المثقف بأن هذا المكان أفضل من غيره، فالأحياء يخشون المرور بجانب الأموات ليلًا، خوفهم هذا سببه أفلام الرعب التي لا تُعرض إلا ليلًا، والفكرة السائدة بسبب سيناريوهات تلك الأفلام، بأن الأشباح تبدأ نشاطها ليلا أيضًا، أقرّ المثقف بعقلانية حجة صديقه الفيلسوف، وقررا أن يواصلا خلوتهما في ذات الركن.
في الليلة التالية، كتب الفيلسوف ببخاخ رديء -وخط أكثر رداءةً- على حائط سور المقبرة، حيث ركنهما المهمل: "ممنع التبول هونا"
فامتعض المثقف، شطب على الجملة الأولى وكتب بخط أقل رداءة: ممنوع التبول هنا
"ما الفرق؟ المهم أنك تفهمها حتى لو بالأخطاء الإملائية"
"الفرق أنك تجلب لنا العار، نحن فاسقان نعم، ولكننا مثقفان"
راق للفيلسوف أن يعتبره صديقه مثقفًا مثله، فسكت.
ولكن العبارتين، الأولى والثانية، لم تمنعهما من السيطرة على المشكلة، ولا حتى الرائحة التي ازداد تركيزها كل ليلة، حتى بدا لهما أن رائحة ذلك الركن صارت تجذب كل من يرغب في قضاء حاجته غيرهما، وكأنها علامة من علامات دورات المياه، تلك التي تتواجد في الأماكن العامة والأسواق العالمية الفخمة.

في ليلة من الليالي وبعد يأسهما من التغلب على تلك المعضلة، قررا أن يعتذرا سلفًا بداية كل جلسة سُكر أمام سور المقبرة، وكأنهما يؤديان التحية المسائية على غرار التحية الصباحية التي يؤديها طلاب المدارس، او كأنهما يرددان -بكثير من الخشوع- نشيدهما الوطني الخاص بركنهما، بعد أن صارت كل المدينة في نظرهما -عدا هذا الركن- غُربةً لا تُطاق.
قام المثقف مستعجلًا بعد أن قضى حاجته ذات ليلة، مترنحًا من أثر البوخة، تفوح منه رائحتها الحارقة، رمى بقية سيجارة حشيشته على موقع التواليت الوهمي، متخيلا أنها -ربما- ستخفف من عنفوان تلك الرائحة النتنة، وفي لحظة بدتْ غير منطقية، دون مقدمات، وكأنها خارجة عن نطاق الزمن، انهار جزء من السور فوق رأس المثقف، تحديدا حيث كُتبتْ العبارتين، طارتْ سكرة الفيلسوف، حمل صديقه الذي أغرقته الدماء لأقرب علامة هلال أحمر وجدها، كانت صيدلية، اتصل الصيدلي بسيارة إسعاف، أتت ونقلتْ كلا السكيرين إلى أقرب مستشفى، لم يُلقِ الفيلسوف بالًا لنظرات الاشمئزاز التي رآها بوضوح في أعين الأطباء والممرضات والمسعفين، كان يبكي لأجل صديقه المثقف وقد بدا له أزرق اللون.

كانت نهاية المثقف، النهاية التي أراد أهل الحي أن يقنعوا الفيلسوف بأنها رسالة تحذير له، "ما ذنبُ صديقي؟ وهل مات أحد معارفه سكرانًا فوصلتْهُ هذه الرسالة أيضًا قبلي وتجاهلها، فعوقب بالموت سكرانًا؟ ولماذا أستحقُ أنا هذه الرسالة وليس العكس؟"
قالوا له بان ما حدث لصاحبه هو "سوء خاتمة"، فصار يهرطق بأسلوبه الذي لا يفهمه إلا صديقه الراحل: "لماذا إذا مات أحدهم سكرانا أُعتبر ملعونًا محشورا يوم القيامة سكرانًا بينما عندما يموت مقاتلًا يُعدُّ شهيدًأ محشورا مع حور العين حتى إن كان قُتِل على يد أخيه؟".
ما آلمه أكثر من وفاة صديقه، هو نظرة الشماتة في عيون المعزين، نظرة الخجل والاستكانة لدى أهل المتوفى، والخيمة شبه الفارغة. شعر الفيلسوف بالحنق تجاه الأحياء، أكثر من الأموات الذين كان موقنًا بأنهم هم من قتل صاحبه، هم الذين دفعوا بالجدار نحوه دون أدنى شك، فقد ساءهم أن يتحول أحد أركان عالمهم الطاهر النقي إلى مرحاض عام.
لم يتجرع البوخة في الثلاثة أيام التالية، ولكنه كان يعيش حالة سُكر من صدمته في فقدان شريك "شيشة الكفرة".. جرب تدخين "حشيشته" وحيدا في حجرته فما زادتهُ إلا وحدةً..
في الليلة الثالثة توجه نحو المقبرة، نحو ذلك الركن بالذات، أراد ان يفهم منهم السبب، لماذا اختاروا المثقف ولم يختاروه هو الأكثر ثرثرة وإزعاجا، لماذا لم يختاروه هو الذي رفض تغيير الركن وأقنع المثقف بذلك؟

وقف في الطرف الآخر من الشارع، خائفا منهم، وراجيا في نفس الوقت أن تأتيه إشارة ما، فإذا به يلمح رجلا يمشي ملاصقا للسور، وصل عند ركنهما حيث نصف الجدار المهدم، التفت نحو السور، وهم بقضاء حاجته بعد أن دلته الرائحة على المكان المناسب ليفرغ كيسه الممتلئ، انتظر الفيلسوف من أهل المقبرة أن يتصرفوا مع هذا الأرعن تصرفهم تجاه صديقه الراحل، ولكن المشهد ظل ساكنًا، وكيس ذلك الرجل بدا وكأنه بئرٌ بلا قاع! فصرخ متوجها نحوه ونحوهم: "ها.. ما الذي تنتظرونه؟ اقتلوه كما قتلتم صاحبي! هيا اقتلوه!"
فزِعَ الرجل، صار يدور بوجهه بين الفيلسوف وبين تلك الفجوة التي أحدثها انهيار الجدار، ظن أن الفيلسوف يتحدث إلى أحد المسلحين المختبئين -ربما- داخل المقبرة، فهرع يجري بعيدا وجذعه يتقدم على قدميه، كاد يسقط عدة مرات في مسافة لا تتعدى العشرة أمتار، انصرف ناسيا حتى إغلاق سحابه.

أما الفيلسوف، فلم يدرك حقيقة ما جرى إلا بعد دقيقتين من انصراف ذلك الرجل بتلك الغرابة، انتابته هستيريا من الضحك والبكاء معًا، "حقا! أحقًّا هذا ما أردتموه!؟"
وقبل طلوع الفجر، لوحظ على السور، بجوار الجزء المنهار منه، عبارة كُتبتْ ببخاخ رديء، وخط أكثر رداءة منه، مكتوب فيها "من يتبول يوعرض نفساه لرصاااص"
اكتفى الفيلسوف بعدها بالتدخين، وهجر البوخة، معتبرًا أن الرسالة من موت صديقه قد وصلتْ، وانتهى الأمر.

تعليقات