كيف ترسم بالكلمات؟

 


*الأعمال الفنية | Radwan Zenati

**نُشر على فاصلة، 2017

أعلم، أعلم أن عنوان المقال مأخوذ من أحد دواوين الشاعر الراحل المتفرد بشعره، نزار قباني، اسم ديوانه “الرسم بالكلمات”.

هذه ليست صدفة، ليست سرقة، مقالي هذا ما هو إلا لتسليط الضوء على فن الوصف والبلاغة التي يعتقد كثير منا أنها فنون يختص بها الشعر.
لا انكر أن الشعر –من وجهة نظري- يعتبر من أصعب وأدق فنون الكتابة، ربما لهذا السبب نحن ندعوا الشاعر “شاعرًا” لا “كاتبًا”، في حين أن القاص و الروائي و كاتب المقالات ايا كان نوعها، و حتى المدون، جميعهم يشتركون في صفة “كاتب”، أما الشعراء فهم يستحقون التميز حقا، اللهم لا حسد.

قرأت مرة بأن الكتابة تعتمد بنسبة 20% على الموهبة، والبقية على التمرين والاجتهاد، وأجزم بان الشعر يعتمد بنسبة 99.99% على الموهبة، لكن هل هذا يعني أن نؤطر “نحن معشر الكتاب” كتاباتنا في أسلوب سردي جامد يخلو من أي مظهر من مظاهر التشبيه والكناية والبلاغة؟ قطعا لا.
وفي المقابل، هل هذا يعني أن نغرق كتاباتنا في البلاغة والسجع والتشبيهات فينسى القارئ في نهاية الفقرة بدايتها؟ أو ينسى من الأساس ما الشيء الذي بدأ الكاتب بالحديث عنه فأسهب في وصفه؟ قطعا لا أيضا.

من النصائح المتكررة خلال بحثي المتواصل في مواضيع الكتابة، أن لا تُسهب عزيزي الكاتب في وصف أمر ما، فتتشعب في وصف الوصف نفسه، لأن هذا الأمر مدعاة للملل، وفي نفس الوقت لا تجفف كتاباتك فتبدو للقارئ كتقرير علمي بحت! ينصح النقاد بأن لا يتجاوز وصفك ثلاث عبارات كأقصى حد.

البعض يمتلك موهبة الرسم بالكلمات، فهو كرسام اللوحات الواقعية والتجريدية، لا يكل ولا يمل خياله من وضع لون هنا، او ظل هناك، وكلما ازدادت ألوانه كلما ازداد شغفا بالمزيد، هذا النوع يقع في فخ الاسراف، وما عليه إلا مقاومة رغبته تلك، وتشذيبها، أما النوع الذي لا يملك تلك الملكة، فقد تبدو له عملية كتابة عبارتين بلاغيتين عملية مرهقة، ينتج عنها في معظم الأحيان صورة مشوشة، لا تصل للقارئ كما أراد لها كاتبها، أنا أنتمي لهذا النوع، على ما أعتقد، لأني أجد صعوبة أحيانا في التقاط الوصف المناسب لحالة نفسية معينة، أو لتصوير مشهد معين، وهذا أكثر ما يؤخرني في نشر كتاباتي، ولكني أعمل على هذا الأمر، والعمل عليه لا يتوقف، فهو يُلقم بجرعات صغيرة، متواصلة، على مدى عمرك الكتابي والإبداعي، كيف؟ هذا ما ساحاول تلخيصه في النقاط التالية:

1 – إلتقط طفرات السخرية التي تتفوه بها: نصف ما تنطق به هازئا في أحاديثك الاعتيادية، في تغريداتك، في تعليقاتك على الفيسبوك او أيا كان، عبارة عن تشبيهات وصور لا تنتبه لها، إن قلت شيئا ضحكت عليه أو نطقت به متألما فالتقطه، وخزنه في ذاكرتك أو سجله في مذكرتك، (ككاتب لا بد أن تكون لديك مذكرة تكتب فيها أليس كذلك؟)

2 – إقرأ الشعر: حتى إن لم تكن مولعا به، حتى إن كنت لا تفهم نصف تلك الصور التجريدية التي يبدع في رسمها الشعراء في نصوصهم، فإن فاتك امتلاك عطرٍ ما، فبالتأكيد لم يفُتك استنشاق عبيره، وسيظل عالقاً في ذاكرتك. (مهلا، لقد فكرتُ مرتين قبل كتابة التشبيه الأخير)

3 – فكر مرتين وثلاث قبل كتابة الوصف الذي تريده: قرأت مرة من احدهم، بان الجملة التي دفعتك لقراءتها مرتين لا بد وأن يكون كاتبها قد فكر فيها أكثر من مرتين، فلا تخذل قراءك.

4 – إستخرج التشبيه من النص: هل تذكر هذا السؤال الذي كان يأتيك في امتحانات اللغة العربية حين كنت طالبا في المرحلة الثانوية؟ حسنا، يبدو أن هناك من استفاد منه، وهناك من نسيه مع انقضاء تلك الحقبة، لهذا عش دور التلميذ من جديد، فكر في أي تشبيه بلاغي يقابلك خلال قراءاتك (أنت تقرا بالطبع كثيرا لأن القراءة تغذي قلمك)، فكر لماذا اختار الكاتب هذا التشبيه؟ هل أعجبك؟ لماذا أعجبك، أو لم يعجبك؟ كيف يمكن أن تعبر عن نفس الصورة بطريقة أخرى؟ إستحضر أي مرادفات أخرى.

5 – أعد قراءة النصوص الأدبية على فترات متباعدة: خاصة الكتب التي تزخر بهذا الصنف، ومعظم الكتاب العرب كذلك، قد تفتقر الكتب الأدبية المترجمة ربما لأن نهج الكاتب نفسه في الكتابة لا يعتمد على البلاغة في الوصف أو لأن الترجمة أخفقت في إيصال الصورة البلاغية كما كانت في الأصل، لماذا تعيد قراءتها؟ لأن التكرار يجعل المادة التي تكررها تُنقش في اللاوعي لديك، هل هذا يعني أنك ستعيد كتابتها لا اراديا؟ لا، بل ستتكون في دماغك مكتبة أرشيفية، غنية بشتى صنوف وألوان التشبيهات البلاغية، سيقوم عقلك لا اراديا بدمج هذه بتلك، او بإيجاد مرادفات لهذه او تلك، وتدريجيا سيكوّن مكتبته الخاصة، وستنبهر إذ ستجد أن عقلك، هذا المعجزة الإلهية، بدأ باختراع درجات ألوان جديدة، وزاهية، تسُر الناظرين.

هذا ما يحضرني، وما أحاول الالتزام به
ولتوضيح جمالية الأمر، قمت باختيار عينات عشوائية من الكتب المفضلة لدي:
فنزار قباني مثلا، في سيرته الذاتية “قصتي مع الشعر” يقول:
يوم وُلِدتُ في 21 آذار (مارس) 1923 في بيت من بيوت دمشق القديمة، كانت الأرض هي الأخرى في حالة ولادة.. وكان الربيع يستعد لفتح حقائبه الخضراء. الأرض وأمي حملتا في وقت واحد.. ووضعتا في وقت واحد
أما غادة السمان (معشوقتي) فتستهل مجموعتها القصصية “لا بحر في بيروت” بقصة “نداء السفينة” التي مطلعها:
العاصفة تشرنق المدينة بالمطر والظلمة وزعيق الريح. غرفتي خائفة مدفونة في أحشاء البناء، الساعة تلهث فوق الحائط وتكاد عقاربها تشير إلى الثانية عشرة. مكتبتي المتخمة تتوهج بالتحدي، والمطر يتطفل على النافذة، وعلى وجهك الذي يطل أبدا خلف أية نافذة منذ عرفتك.
وفي نفس القصة:

السيارة تتماوج كأنها بين فكي شلال أهوج. الريح تصفعها تركلها من كل جانب
وفي كتاب “صفارة إنذار داخل رأسي” تكتب غادة مطلع إحدى المقالات:
بيروت اليوم يا أصدقائي، ترتدي ملابس الحداد… تتبدى معتمة حزينة. دم أسود يجري في شرايينها، فشوارعها مطفأة الأنوار
وأحلام مستغانمي في تحفتها “ذاكرة الجسد” :
كنتِ فتاة عادية، ولكن بتفاصيل غير عادية، بسرّ ما يكمن في مكان ما من وجهك.. ربما في جبهتك العالية وحاجبيك السميكين المتروكين على استدارتهما الطبيعية. وربما في ابتسامتك الغامضة وشفتيك المرسومتين بأحمر شفاه فاتح كدعوة سرية لقبلة. او ربما في عينيك الواسعتين ولونهما العسلي المتقلب.

وها هي نجوى بن شتوان في رائعتها “زرايب العبيد” تصف مشاعر بطلة الرواية:
القاع مليء بما تعجز عتيقة عن وصفه..
لماذا تنكأ جراحي الآن يا حاج علي؟ لماذا تطل الحكايات بعد فوات مواسمها؟
عتيقة الصبورة الصامتة كأمها، كصخرة تتحمل لطم الأمواج المالحة لها منذ زمن دون أن يفتها الملح…
وفي الأدب المترجم، في رواية “شرف” للكاتبة التركية “إليف شفق”، تصف أحد المشاهد بصورة ناعمة وسلسة:
اقترتب نازي من المهد الذي كانت تنام فيه الطفلتان، وكان الوميض المنبعث من الموقد قد أضفى على الغرفة لونا ذهبيا انعكس بدوره على بشرتي الطفلتين فبدتا مثل ملاكين
كذلك في أدب السيرة، المترجم أيضا، يختم الدكتور ايرنيست كتابه “مغامرات في طرابلس” :
وأخيرا، عندما ينوء جسم الإنسان تحت وطأة الأعوام الطويلة ويسعى الرأس الواهن ليجد طريقه إلى وسادة النوم الطويل، يبرز وجه آخر من أوجه التباين: وجه تجسده واحة الموت الأبدية التي تعقب صخب الحياة وساعاتها المزدحمة، المتعجلة
وأخيرا وليس آخرا، رضوى عاشور في ثلاثية غرناطة، التي أقرؤها حاليا، في عبارة سلسة عذبة تكتب:
يا علي ليس كل أبيض برد، ولا كل أسود فحم، ولا كل ما يبدو أخضر ريحان، ولا كل حصان يدور في الميدان.
تلك الأساليب هي التي تميز كاتبا عن آخر.

هل تجدون صعوبة في التقاط الوصف أو التشبيه البلاغي المناسب في النص؟ كيف تتعاملون مع إسهابكم أو مع فقركم تجاه استخدام التشبيهات البلاغية؟

تعليقات