*نُشر على فاصلة، 2017
شعرتُ بالإهانة أول مرة سمعتُ فيها بهذا المصطلح الذي أُطلِقَ على كل أدب تكتبه النساء في أواخر القرن الماضي، و شعوري بالمهانة لم يكن بسبب قصر أظافري وجفافها وتشققها غالبا إثر تقطيع الخضروات أو اللحوم، ولكنه كان بسبب الدلالات التي ارتأيتها من وراء اختيار هذا المصطلح، وانتابتني مشاعر عداء تجاه ذلك المجهول الذي كانت له براءة اختراع هذا اللقب.
و دون أن يوضح لي أحد المعنى المراد من ورائه، فقد افترضتُ أنه قُصِد به أدب النساء المترفات، المدللات، أدب النساء ذوات الأيدي الناعمة جدا، والأظافر الطويلة المطلية اللامعة، وكأن المرأة لكي تكتب لا بد وأن تكون إمرأة مدللة، متفرغة، وإلا لما قامت بهذا العمل العظيم الذي ظل الرجل لقرون طويلة مسيطرا عليه.
وحين هممتُ بالتعبير عن امتعاضي الشديد انتبهتُ لمعنى آخر قد يكون هو ما أراده صاحب براءة اختراع اللقب، ربما أراد بـ"الأظافر الطويلة" تلك التي ظلت مخبأة لأزمان طويلة، وحين اكتشفت قوتها انطلقت تخدش كل تلك الأسوار التي ظلت قابعة خلفها، تماما كالقطط، وتنقش على الجدران حكايتها وحكايا الإنسانية المعذبة، حتى حكايا الرجل الحائر الذي قد يكون شارك في بناء تلك الأسوار، قلتُ سأُسبِّق حسن النية، وسأفترض بأن هذا هو المقصد من وراء اللقب.
سيفترض البعض أني هنا بصدد الانضمام إلى جوقة التباكي حول حقوق المرأة المهضومة وضياع إنسانيتها، لا لن أفعل، فالرجل أيضًا في بلادنا فاقد لإنسانيته، مقهور، وقد يكون هذا دافعه الرئيسي لقهر نسائه كوسيلة أخيرة لاستعادة بعض توازنه الداخلي! على كل حال، فإن كلامي لا يدخل نطاق التعميم خصوصا في وقتنا الحالي، إذًا ما الذي أريد الوصول إليه؟
أريد الحديث عن المرأة حين تكتب، والتحديات التي لطالما وقفت في طريقها، وما زالت...
بعضهم يسميه أدبا نسويا، ولكنهم يحصرونه هنا في كتاباتها التي تتكلم عن مشاكلها وحقوقها الخاصة، والواقع يقول بأن أديبات عربيات -من بينهن ليبيات- استطعن الكتابة حتى عن مشاكل الإنسان بصفة عامة وعن حقوقه، استطعن الكتابة حتى بلسان الرجل، وأبدعن في ذلك.
البعض يسميه أدبا أنثويا، وهنا يقع اللبس، فالأدب الأنثوي هو الأدب الذي يختص بكيان الأنثى ككل، روح وجسد، وفي هذا المجال كتب رجال كثر لعل أبرزهم الشاعر "نزار قباني"، الذي أُطلِق عليه سخريةً وانتقاصًا لقب "شاعر المرأة" في بداياته، ولكنه -ويا للسخرية- كان سعيدًا بهذا اللقب!.
البعض الآخر يرفض التصنيف من الأساس، باعتبار أن التصنيف في حد ذاته انتقاص ربما لقيمة الأدب الذي تكتبه النساء، رفضوه رغبة في تقييمه كأدب وحسب، كقيمة فنية، كما يقيم أدب الرجال تماما، ونحن لم نسمع أبدًا بلقب "أدب الرجال" من قبل!.
أنا مع تصنيفه، لا لانتقاص قدره بالطبع -فأنا أقع ضمن هذا التصنيف-، ولا لحصره في مواضيع معينة، بل على العكس؛ لأن المرأة ناضلتْ حتى دخلتْ ساحة الكتابة -وساحات أخرى-، لأنها بقيتْ دون تعليم حتى بدايات القرن الماضي، لأنهم اعتقدوا أنها لن تفلح إلا في علم المطبخ والتنظيف والعناية بالأطفال. ولأنها حين تعلمتْ انتقلتْ بخطوات زمنية واسعة ووصلتْ إلى ما وصل إليه صديقها الكاتب خلال قرون من الزمان.
أتدركون صعوبة أن تخرج لنا امرأة متعلمة، مثقفة، وكاتبة من خلفية لا علاقة لها بتلك الكلمات؟ أتعرفون مدى صعوبة أن تخالف الفتاة ما توارثته أمها والجدات؟ هذا بالضبط ما عانته الحركة النسائية على جميع الأصعدة منتصف القرن الماضي، وللكتابة هنا شأن خاص، فالمرأة معرضة للطعن في شرفها إن تحدثت عن الجنس أو السياسة أو الدين، "التابوهات" الثلاث الشهيرة، وشرف البنت "زي عود الكبريت" على رأي ذلك الممثل المصري رحمه الله!
لا تلك "التابوهات" فحسب، فالمرأة تعاني من "تابوهات" أخرى داخلية، بعضها تسبب فيها الرجل، بعضها تكونتْ بسبب ثقافة الموروثات التي قيدتْ الرجل والمرأة على حد سواء، فهي تخشى من أن تُحاسب بسبب كلام أو معتقدات أو أفكار لإحدى شخصيات قصصها -مثلا- خاصة إن كتبت عن شخصية ماجنة! تخشى أن يُسقط رجال العائلة النص الذي التبسها في لحظة ما على شخصها! تخشى أن تقصر تجاه عملها أو أسرتها! تخشى أن تكون ممارستها للكتابة فعلا أنانيا صرفًا؛ لا فائدة منه إلا إرضاء غرورها وإشباع لذتها الخاصة! فالمرأة كائن مجبول على إنكار الذات والتضحية، فهل نساوي ما تواجهه ككاتبة بما يواجهه صديقها الكاتب كي نساوي بين أدبيهما؟.
يقل الفارق بين أدب النساء والرجال إذا كانت الكاتبة شابة لا مسؤوليات وراءها إلا دراستها، أو ربما وظيفتها، تتقلص العوائق فتنحصر في وضعها الأسري، ومدى انفتاح والديها تجاه ما تكتبه وتشجيعهم لها، ربما بعض الأسر تعامل أبناءها الذين يقررون الكتابة بانفتاح أكبر من بناتهم اللاتي يسلكن نفس المنهج، فالرجل لا يعيبه شيء!.
ولكن الفارق يزداد إذا ما تزوجتْ، ثم إذا ما أنجبتْ، الزواج لا يغير من حال الكاتب، ولكنه يقلب حياة الكاتبة، لن تعرفوا صعوبة الانتقال بين نص إبداعي وحفاظات تحتاج التغيير، أو "طنجرة تحترق"، لن تعرفوا صعوبة الحفاظ على الإلهام العزيز قليل الزيارات وسط كثرة الزيارات والواجبات الاجتماعية، لن تدركوا أبدًا معنى أن تكتب نصًا وإلى جوارك معركة إخوة حامية الوطيس، إلا إن خضتم التجربة!.
لهذا السبب اختارت كثير من الكاتبات العزوبية، وانفصلتْ أخريات عن أزواجهن...
ولهذا السبب أيضاً امتنعتْ كثير من الكاتبات في فترة من حياتهن عن الكتابة، مكرسات أعمارهن -بحُب- للعناية بأبنائهن، مؤجلات فعل الكتابة حتى يكبر الصغار، بالتالي يتاح لهن متسع من الوقت الذي افتقدنه في سنواتهن الأولى.
المحظوظات هن اللاتي وجدن البيئة الزوجية الملائمة تماما لمواصلة كتابتهن، أذكر هنا الكاتبة السورية "غادة السمان"، والكاتبة التركية "أليف شفق"، كلتاهما تزوجتْ بعد أن صار لها إسمٌ أدبيٌ معروف، كأن الزواج والإنجاب تجارب جديدة تكلل بها كل منهما تجربتها الكتابية، فلم يتعارضا مع الكتابة؛ لأن الزوج اختارها كاتبة من الأساس، واحترم كينونة واسم هذه المرأة التي قرر الارتباط بها.
إذًا هل من العدل مساواة الأدب الذي تكتبه النساء بالأدب الذي يكتبه الرجال؟ ربما أراد البعض بالتصنيف تقليل شأن أدب النساء، إلا أني أعتبر العكس هو الصحيح، سأكون فخورة أن تصنف أعمالي مستقبلا -إلى جانب التصنيفات المعروفة- كأدب نسائي؛ لأني أتحايل على صغاري لأكتب، لأني أسرق أوقاتي منهم، لأني أتنازل عن قيلولتي أو عن تناول وجباتي الرئيسية أحيانا منتهزة فرصة اجتماعهم على وجبتهم كي أكتب، لأني أكتب هذه الكلمات وابنتي إلى جانبي في هذه اللحظة تلح عليا بسؤالها: "ماما، كيف ينزل المطر؟" وكأني لم أشرح لها الأمر ألف مرة، وكأنها إن لم تحصل على جوابي في التو واللحظة، فستسقط السماء على رؤوسنا! ولأني -برغم كل هذا- مازلتُ أكتب!.
ولكن السؤال الذي يحيرني الآن، تُرى لو أردنا أن نلقب الأدب الذي يكتبه الرجال على غرار لقب "أدب الأظافر الطويلة"، فماذا سيكون اللقب؟
تعليقات
إرسال تعليق