*نُشرت على فاصلة، 2020
زاغتْ عينا "بشير" وسط الحشود لغاية غير غايتهم، كان يبحث عن خاله السبعينيّ، خاله "جمعة الكورتو"*، والذي تكفلت أخته برعايته كأنه واحد من أبنائها، وكانت تخشى فقدانه مجددًا، كما فقدت أخاها "بشير" قبله.
اصطفّ الفضوليون على طول ميناء طرابلس وعرضه، يزاحمون الجالية الإيطالية ويودّعونها بكثير من الشماتة. نساء بنظارات شمسية بُنّية تغطي نصف وجوههن، تنانير قصيرة وحقائب كبيرة، أطفالٌ لا يعرفون ما "إيطاليا"، لا يعرفون منها إلا لغة ورثوها عن آبائهم، وجوازات سفر، وبعض الصور التي جاء بها أجدادهم بآمال عريضة إلى ما اعتبروه شاطئهم الرابع! ورجال ستُوزَّع أملاكهم على سكان الأرض الأصليين بمجرد رحيل آخر فردة حذاء لهم من على اليابسة الليبية.
"برا سلم ولدي شوف خالك أكيد في الميناء"
لمْ يُحر بشير جوابًا، إذ لطالما كان مرضيًّا هادئًا مطيعًا كريم النفس كخاله المتوفى ليماثله بالطباع، لا فقط بالاسم وملامح الوجه... شقّ طريقه وسط زحام المتفرجين والمطرودين بصعوبة حتى رآه أحد العاملين بالميناء فعرفه فورًا... "يا بشير! هوينا خالك جيهة فلوكات الحوّاتة... الجيهة الثانية غاديكا"... اكتفى بشير بإيماءة شكر وتلويحة امتنان بيده.
"بشير جيت!"، تهلل وجه جمعة الكورتو وهو يرى ابن أخته متجهًا صوبه يغطيه ملح العرق والصبر، والأسى لحال خاله.
"هيا نروّحوا يا خالي قبل ما تحصل ضربة سمس"... ارتعش حاجبا جمعة، تغضن جبينه فازدادت أخاديده عمقًا، لوّح بيده وكأنما يهش ذبابة أو يزيح غشاوة من ضباب... "أنت مش بشير! ما نيش مروّح لين يروّح بشير... اشبح اشبح الزحمة وقداش فيه بابور وفلوكة اشبح! نهار رفعونا كان عجاج زي اليوم، أكيد بيروح اليوم أكيد!"**
"ولكننا في مارس يا خالي"، قالها بشير بنفاد صبر.
"زي مارس زي أكتوبر، كله زي بعضه لين يروّح بشير"
وكالعادة، قرفص بشير إلى جوار خاله منتظرًا انتهاء هذه النوبة…
ومضى جمعة الكورتو السبعيني يردد -كالعادة- بعضًا مما حفظه حين نُفي عن وطنه وهو بعد طفل لا يتجاوز الحادية عشرة من عمره، لا يدري ما معنى جهاد وما معنى جنة وما معنى وطن…
تيسّرت كيف اندبروا يا عيني
في الوطن ما لقيتش حبيب ايجيني
في أوستيكا غير النكد يا عويني
يقول: حيين لا كنتي حياة دونية
والناس تضحك خاليين قضية
خذوا وطنّا بالسيف هالذّمية
جروا عليها الخيط والملكية***
اختفت في تلك اللحظة الجالية الإيطالية، ورأى جمعة مشهد اصطفافه وكثير من الأطفال ومن الرجال والشيوخ وحتى النساء، أمام شاطئ طرابلس في انتظار القوارب الصغيرة التي تحملهم أفواجًا إلى السفينة الراكدة على بحرهم، البحر الذي لم يكن يأتيهم إلا بالخيرات والمغانم، لم يحملوا أمتعة لهم حين جُرجِروا من بيوتهم.
"كل واحد ما معاه إلا شلاتيته، وفيه اللي جابوه زقطوط من مرقده"... ينصت بشير لما ينوء به قلب خاله فينطق به كأنما ليبصق ما بجوفه.
آخر ما يذكره جمعة بوضوح كوز ماء باردة من خزان "بير بو مليانة"، همّ أن يروي بها عطشه استعدادًا لرحلة جديدة في سانية أخرى لالتقاط البلح، حين كاد ينسى الناس أن ثمة بلادًا رومية استعمرت بلادهم منذ بضعة أيام.
ركض نحوه أخوه بشير وكأنما تجري الذئاب على إثره، وقف يلهث فمد جمعة كوز الماء مؤثِرًا أخاه الذي يكبره بعشرة أعوام، متوددًا إليه بها، بشير هذا هو أبوه وأمه، بشير هو رجل البيت الذي لا يقيم فيه إلا هما الاثنان وشقيقتهما الصغرى حليمة... وحين استجمع بعض أنفاسه حاول أن يهمس لجمعة، غير أن الهمس يستهلك أحيانًا قوة لم يكن يملكها تلك الساعة، فهتف بشيء من الحفيف:
"سيهجم الرجال على مخازن السلاح بسانية الباشا مساءً، سمعتهم… سمعتهم... كل الذين جاؤوا لأجل موسم البلح يا جمعة، سنهجم على الروميين الليلة أو غدًا فجرًا، سأمضي فورًا، اعتنِ بنفسك وبحليمة"... ولم يفهم جمعة إلا الجملة الأخيرة، ولكنه تساءل، لِمَ عليه أن يعتني بأخته؟ أين سيمضي بشير؟
فجر الاثنين، 23 أكتوبر 1911م، انطلق بشير ليفاجئ الطليان مع من سواه يكبرونه أو يصغرونه، في "الهاني"، وعاد إلى بيته بعد غروب الشمس ملطخًا بالدم جريحًا، بين بهجة الحماس تملأ روحه وألم جسدي يعانده رغبة في مواصلة ما بدؤوه، هالَ جمعة وحليمة منظر الدم، حاولوا اتباع وصايا بشير بجلب الخرق والمياه محاولين إسعافه.
في صباح اليوم التالي، اقتيد بشير وجمعة، وكثير من أهالي طرابلس وضواحيها كالبغال في الشوارع، قُتل كثيرون رميًا بالرصاص، وأعدم الكثيرون، وجُمّع البقية في مدرسة الصنايع متكدسين فوق بعضهم، يبول عليهم بعض الروميين الواقفين على أسوار المدرسة. ظلوا بها يومين.
بالسيف علينا فكوه
الوطن خذوه
المسلم في زنده طبعوه
جُرْحُ بشير أنبأهم بمكانه في اليوم السابق، كان ينبغي أن يموت فورًا بالشنق بعد أن خُتم على كتفه ختم الإعدام، ولكن للفوضى العارمة كلمتها. 26 أكتوبر كان موعد نفيهم ليأتي مكانهم آخرون ذووا بشرة بيضاء، فيحرثون أرضهم، يقيمون في بيوتهم، يشربون ماءهم، ويتنفسون هواءهم.
"اكداس اكداس رفعونا في فلوكات وحطونا في عنبر في البابور، اكداس اكداس، وبشير كان ينزف... ينزف"، فكّر بشير بأن خيالات خاله تقارب نهايتها، وأن نوبة أشدّ هي في الطريق، فوقف محتضنًا خاله من ظهره مُكتفًا ذراعيه برفق…
تاه جمعة عن أخيه حين رُموا في العنابر، ومضت السفينة تمخر البحر وأوجاعهم فتزيدها عمقًا، تشقّ البحر وجراحهم، وهو رغم إحساسه بالدوار والجوع والعطش يستجدي الجند يسأل عن بشير، ورأى من بعيد أجسامًا ملتحفة أرديتها تُلقى في البحر، رأى من بين تلك الأجساد الملقاة على أرضية السفينة جسدًا يرتدي قميصًا أبيضَ مُصفرًّا مبقّعًا في معظمه، هو قميص بشير، وهو بشير الملقى دون حراك، ما باله لا يتحرك؟ ما باله لا يتأوه أو يصرخ كبعض تلك الأكوام في انتظار حكم الإعدام غرقًا؟! وحين انطلق مُسرعًا جذبه أحدهم من ياقته حائلًا بينه وبينهم، ومن داخل أحد العنابر سمع جمعة صوتًا ينتحب: "بشير في الجنة يا جمعة!"...
"لا، ما زال حي لكن دايخ، نوض يا بشير، نوض يا بشير، نوض!"... ازدادت قبضة بشير قوة على خاله، يربطه بحنان موجع متوجع، حائلًا بينه وبين حاشية رصيف الميناء.
كلاهما يذرف الدمع، فيما كفّ الحوّاتة عن تأمل المشهد الذي يتكرر أمامهم منذ سنوات طويلة، فجمعة معلمٌ من معالم ميناء طرابلس حتى إشعار آخر.
لا يذكر جمعة الكورتو ما حدث في جزيرة أوستيكا حيث نُفي، لا يذكر بأن لقب الكورتو تلبّسه بفضلٍ من جند الجزيرة وضباطها وعاد معه إلى وطنه، ولا يذكر أنه عاد إلى وطنه بعد ذلك بستة أعوام في عملية تبادل أسرى بين المجاهدين والطليان، لا يذكر كيف وجدته أخته هائمًا في المنشية، ولا كيف عاش الستين عامًا التالية... يذكر فقط قولًا حفظه في مكان ما بجزيرة نائية وهو يتوسد التبن والقمل:
قعد غير حوايز وقطر
المسلم من وطنه يظهر
دايح في الأوطان يكر
يدعثر والوجه خضر
الدمعة من عينه تظهر
تقول مطر شبوب عاصف
والسيل يجر
---------------------------
هوامش:
* الكورتو تعني القصير بالإيطالية.
** بابور: سفينة. فلوكة: قارب.
*** أبيات الشعر لمحمد عبد السلام اليوسفي، أحد المنفيين العائدين إلى الوطن. موسوعة روايات الجهاد، جزء خاص بالمنفيين، إعداد مجموعة من باحثي المركز، منشورات مركز دراسة جهاد الليبيين ضد الغزو الإيطالي، سلسلة الروايات الشفوية-8. الطبعة الأولى 1988م.
------------------
تدقيق- علياء
تعليقات
إرسال تعليق