قهرستان العظيمة

 


*نُشرت على صحيفة أبواب (بعنوان: من تحت الصفر)، ومنصة فاصلة، 2021


جمعهما الوطن، ثم اللجوء...


فاتح وفتحي الآتيان من إقليميْ "غربستان" و"شرقستان" الواقعيْن في دولة "قهرستان" العظيمة، التقيا منذ لحظاتٍ قليلة أمام مكتب الجوازات في مطار "الفردوس الموعود" في دولة "الحضارات المتحدة".


أخبرتهما ملامحهما بأنهما ينتميان إلى نفس الوطن الذي لفظهما؛ ليست ملامحهما فحسب، بل النظرة المكسورة أيضًا، والشفاه المُقشّرة المتشققة جوعًا وعطشًا وغضبًا.


كلّما همّ واحدٌ منهما بالتعرّف على الآخر تراجع، وكلّما أخطأ أحدهما بالتعليق ساخرًا من المترجمة ندم، وأعقبه ندم الآخر الذي كشف عن هويته حين ضحك مجاراةً للطرفة.


يعلمان أنهما أبناء ظُلمٍ واحد، ويعلم كلٌّ منهما أن الآخر يعلم، ولكنهما فضّلا التجاهل؛ فأمام المكتب الذي أعلنا فيه طلبهما للجوء تخطر أفكار غريبة: ربّما ليس في صالحي أن يكون ثمة لاجئ آخر يحمل نفس جنسيتي! هل ستتعارض أقاويلنا وأخبارنا؟ تُراه من أي المناطق؟ من أي المذاهب؟ من أي القبائل أو المِلل؟


جمعتهما هذه الأفكار أيضًا!


مرّ استجوابهما سريعًا، كلٌّ منهما في معزل عن الآخر، وحين انضمّا مجددًا إلى بعضهما في انتظار الخطوة المجهولة القادمة، تجرّأ فاتح بسبب الراحة التي انتابتْه وخاطب فتحي مباشرة:

تُرى كم تراهم يبقوننا في الملجأ قبل البتّ في أمرنا؟


لم يندهش فتحي، إذ كان يحمل نفس مشاعر الراحة التي تجُبّ ما قبلها من القلق والحيرة، أجاب باستسلام:

ليس مُهمًّا متى، المُهمّ أننا الآن في مأمن...


- صدقت!


ناول فاتح رفيقه السيجارة الأخيرة من رائحة قهرستان، "تبغنا ممتاز! سأشتاق إليه"، قالها فاتح بحُزنٍ غير مُفتعل، فردّ فتحي بحُزنٍ أعمق وهو يتناول السيجارة من الرفيق:

صدقت!


استدْرك فتحي:

ولكن... ما أهمية دُخان التبغ إن كانت صدورنا مختنقةً بحرائق حقول وغابات بلادنا!

- صدقت! وحرائق بيوتنا ومدارسنا.

- صدقت! والمصانع والمتاجر الفقيرة.


هزّ كلٌّ منهما رأسه متوسمًا الخير والصُّحبة والأُنس في الآخر، شيءٌ ما يمكن ادّخاره للأيام الصعبة المقبلة، أُلفةٌ تأتي دون دعوة.


ونتيجة حتمية لهذه الألفة الوهميّة، وقع كلٌّ منهما في فخّ الاعتقاد بأن كل من وافقه حالة الوجع والوجد لا بُدّ أنه ينتمي إلى نفس صفّه، فأبناء المعسكر الآخر لا يشعرون، ولا يفكرون، وهم لا يتعدّون كونهم حميرًا تحمل أسفار قادتها.


هتف فاتح بصوتٍ هامس كالحفيف:

كلّه منهم... هُم السبب...

- صدقت!

- إذا تعلّم أبناء غربستان بعض الوطنيّة -فقط البعض منها-، لما وصلنا إلى هذا الحدّ!


توقع فاتح "صدقت" جديدة، غير أن فتحي انتفض، عقد حاجبيه، بصق السيجارة من بين شفتيه وصحّح مشيرًا بسبابته:

تقصد أنّه لو تعلّم أبناء شرقستان بعض "الغيرية" على دينهم -فقط البعض منها-، لما وصلنا أبدًا إلى نصف هذا الحال!


- بل لو تعلّم أبناء غربستان بعض الوفاء لشرقستان التي جاءتهم بالحضارة والمدنية...


قاطعه فتحي بشخير قويّ هازئًا:

حضارة ومدنية! حضارة البلاد المبيوعة للأجنبي!


- أنتم من باعها أولًا للأجنبي!

- لم نبِعْ شرف أمهاتنا كما فعلتم!


سكت الكلام، ونطقتْ الأيدي والأظافر والأقدام...


تمَّ ترحيلهما في اليوم التالي إلى قهرستان، أخبرهما الضابط بأنَّ عليهما الانتهاء من صراعهما أولًا قبل البدء من الصفر في بلدٍ أجنبي؛ عليهما البدء هناك، من نقطةٍ ما، تحت الصفر.


------------------------------

- تدقيق | رحاب القاضي


تعليقات