*نُشرت على فاصلة، 2019
استطعت البقاء عامًا كاملًا دون مواقع تواصل اجتماعي افتراضي، هذا تحدٍّ نفّذته أمي منذ خمس عشرة سنةً مضتْ، ومنذ ذلك الحين، توقفَتْ عن استعمال إنترنت المواقع الاجتماعية واكتفتْ بالاطلاع على الصحف والمدونات المحلية والدولية. حين أردتُ تكرار تجربتها نعتني الجميع بالمجنون، أكدوا لي أن هذا أمر مستحيل، فنحن في الـ2040، لا في 2025!
لكني استطعت ونجحت، وما الذي اكتشفته؟
اكتشفت أن طعم القهوة أو الوجبة الجاهزة لذيذ حتى إن لم أصورها وأرِها لأصدقائي؛ بل أن طعمها ألذّ دون إشهار!
اكتشفت أنه باستطاعتي ركوب الطائرة حتى إن لم أُحدّث حالتي وأُبلّغ بوجهتي من مطار كذا إلى كذا؛ بل يمكنني حتى الحجز في أي فندق بدون الإعلان عن مقر إقامتي، ورغم هذا فإن حجزي مقبول! هل لكم أن تتخيلوا يا أصدقائي؟
اكتشفت أنه بوسعي زيارة الطبيب وتناول الدواء دون تحديث حالتي الصحية وتبليغ الأصدقاء بشدة مرضي، وبأن مفعول الدواء لن ينقص!
اكتشفت أن الهدية لا تفقد قيمتها إن لم أنشرها وأكتب عن صاحبها!
اكتشفت أن عقد الزواج يُعدُّ صحيحًا حتى إن لم يتم تحديث الحالة الاجتماعية، كذلك الطلاق يعتبر واقعًا وصحيحًا حتى إن لم يعرف الناس به!
اكتشفت أنه باستطاعتي البوح لشخص مقرب واحد وجهًا لوجه، وأني سأشعر بنفس مقدار الراحة إذا ما شاركتُ مشاكلي على الملأ، بل براحة أكبر!
اكتشفت أن أطفالي يستمتعون حين ألعب معهم، لا حين أمضي الوقت في تصويرهم ونشر صورهم، كي يرى العالم كيف يمضي أطفالي وقتًا ممتعًا!
اكتشفت عادة قديمة كانوا يسمونها "الهوايات"؛ باختصار هي القدرة على ممارسة عدة أنشطة غير تصفح تلك المواقع، كالرسم، والاستماع للموسيقى أو عزفها، والكتابة، تمارسها لمدة أطول من مدة "تواصلنا الاجتماعي"، وأنه يمكنك أن تكون موهوبًا جدًّا دون قيامك بنشر صورك أثناء ممارستك موهبتك!
اكتشفت أن التعزية والمباركة تكون أصدق وأقرب وُدًّا حين تكون وجهًا لوجه، أو بالاتصال الصوتي في حال العجز عن الذهاب، لقد تخلصت من ذلك التناقض، حين أعزي كتابةً أحدهم وأحزن لأجله، ثم يعقب منشور التعزية آخر به نكتة تدفعني للقرقرة بشدة، فيتشنج دماغي غير مستوعب لما يحدث!
اكتشفت أن أحلى اللقاءات تلك التي ننسى خلالها تصوير ما أكلنا وشربنا!
اكتشفت ألا أحد يذكر تاريخ مولدي، وأنا أيضًا لا أذكر تاريخ مولد أيٍّ من المقربين! كيف استطاعت أمي طوال تلك السنوات تذكر يوم ميلاد أبي وذكرى زواجهما؟
اكتشفت أن دعواتي مستجابة حتى إن لم أكتبها على حائطي، بل اكتشفتُ أن أفضل بقعة يمكن للإنسان أن يدعو فيها هي بقعة سجوده، لا حائطه.
اكتشفت أن الحياة أكثر هدوءًا وجمالًا عندما يختفي منها طنين الإشعارات، وعندما تتحرر أصابعي من رغبتها في الإمساك بجهاز ما، وأن "التليفون" هو جهاز خُصّص أصلًا لاستقبال وإرسال المكالمات الصوتية، تصوروا! وأن الإنترنت لا يفقد بريقه خارج إطار تلك المواقع؛ بل يكون أكثر نفعًا.
وعرفت السر الذي دفع بأمي للاستغناء عن هذه المواقع والتطبيقات، كنت دائمًا أسألها عن السبب؛ ولكنها عوضًا عن الإجابة تردّ: "جرب بنفسك كي تعرف"... إنه الحرية…
تدقيق: آية أبوسعيدة
تعليقات
إرسال تعليق