درس هزيمة 67

 


*نُشر على فاصلة، 2020، في الذكرى الثالثة والخمسين من ذكرى نكسة 67

سواء كنت عربيًّا أم غير ذلك، مؤمنًا أم مُلحدًا، تدعم القضايا الإنسانية أم لا، فإن ارتباطك ووجودك على هذه البقعة الجغرافية يفرض عليك مسؤولية المعرفة والعلم بالشيء، والخاسر حقًّا هو من لا يتعلم من التاريخ، فما الذي تعلمناه من الهزيمة؟


دعنا عزيزي القارئ "الموضوعيّ" نتفق أولًا ألّا عنصرية في مصطلح "الكيان الصهيوني" المُستخدم في هذا المقال، عِوضًا عما تراه "تسمية الأشياء بمسمياتها"، فالدولة اليهودية المسماة "إسرائيل"، دولة بُنيتْ وترعرعتْ وباقية وتتمدد بفضل الحركة الصهيونية، وهذه بشهادة شاهد من قومهم:
"لولا الصهيونية لما وُجِدتْ إسرائيل، ولولا إسرائيل لما كانت بيئة الصراع الشامل هذه"¹.

ندرك أن الصهيونية حركة عالمية لا تشترط يهودية منتسبيها؛ ولكنها نجحت في تكوين دولة لا يجمع مواطنيها المشتتين إلا يهوديتهم؛ إذ "يكمن سر الصهيونية في مزاوجتها بين مفهوم القومية واليهودية بأرض إسرائيل"² المزعومة في كتبهم المقدسة.

وبعد؛
منذ 53 عامًا بالضبط، وفي يوم كهذا، على تمام الساعة الثامنة صباحًا، بدأ جيش الكيان الصهيوني المعركة وانتصر فورًا، والأيام الخمسة التالية لها لم تكن إلا عملية سيطرة و"وضع يد" على أكبر قدر ممكن من الأراضي الخارجة عن الاتفاقيات الأممية سريعًا، قبل أن يتدارك العالم أمرها ويُعلن وقفًا فوريًّا للعمليات القتالية... ولنكن منصفين، فقد استمرت المقاومة في بعض الجيوب (من بينها بلدة القدس القديمة) حتى آخر رمق.
لم تكن المرة الأولى التي بادرتْ فيها قوات هذا الكيان بالقتال، فهي المرة الثالثة بعد حرب 48، والعدوان الثلاثي في 56، والرابعة إن حسبنا هجومها المباغت³ على القوات الأردنية في 66... كيان يدعو باستمرار للسلام، لماذا إذًا يبادر بالحروب في كل مرة؟ وماذا يعني له السلام بالضبط؟

>> لماذا بدأ الحرب؟

ما لا يدركه معظمنا أن ثمة أسبابًا غير معلنة في ذلك الزمان حتّمت على تلك الدولة الجديدة المعاندة للحصول على شرعيتها الخوض في هذه المعركة تحديدًا رغم حساسية موقفها وسط جيرانها -الرافضين لها سلفًا لأسباب دينية أولًا ووطنية ثانيًا بعد عقود من الاحتلال وفقدان السيادة-، لكن دعونا قبل ذكر الأسباب السرية نعرج أولًا على الحجج المعلنة التي استطاعت بها تلك الدولة المزعومة انتزاع تأييدٍ ودعمٍ إنكليزي-أمريكي خلال أيام معدودة سبقتْ الحرب⁴:

أولها، الأسطوانة "المشروخة": الخشية من أفران نازية جديدة (هولوكوست)؛ ولكن على أيدي العرب هذه المرة.
ثانيها، العمليات الفدائية التي ما فتئت الأنظمة تدعمها تارة وتغض عنها الطرف تارات أخرى. وبعض الهجمات الرادعة التي كانت تأتي من الجانب السوري تجاه المستوطنين، حين كانوا يدخلون الأراضي السورية في الجولان لحراثتها ووضع أيديهم عليها.
ثالث هذه الحجج، الدعم الروسي لجمال عبد الناصر، والقارئ العزيز، وفي ظروف كظروفنا، يدرك تمامًا ألّا شيء بإمكانه استنهاض السيد الأمريكي إلا حركة مريبة يستشعرها من نظيره الروسي!
رابعها وأهمها، هو إغلاق مضائق تيران الاستراتيجية أمام البواخر الإسرائيلية (في خليج العقبة) من قِبَل الجانب المصري بعد إخراج قوات حفظ السلام من أراضيها، والتعبئة التي حدثتْ في سيناء بعد ذلك.

أما عن الأسباب الحقيقية وراء عدوان هذا الكيان على جيرانه الثلاثة، فكانت هذه أهمها⁵:

- خوفهم من محاولات الجانب السوري تغيير خط مياه نهر الأردن بعيدًا عن الأراضي المحتلة، إذ لطالما كانت منابع المياه سببًا لنزاعات إقليمية بين عدة دول في العالم.
- انتهاء الدعم الفرنسي بعد أن انتهج الرئيس الجديد "شارل ديغول" سياسة الصداقة وحسن الجوار مع العرب.
- انشغال أمريكا بحرب فيتنام مما زاد من قلق هذا الكيان إزاء عزلة الدولة الوليدة، في حال شنتْ أي دولة مجاورة حربًا عليها.
- انتهاء التعويضات الألمانية، مما أسفر عن كساد اقتصادي هدد وجود الكيان.
- انخفاض مستوى الهجرة، والهجرة العكسية للمستوطنين منذ 1948.
- انشغال جمال عبد الناصر بحربه في اليمن، إذ بدت هذه فرصة ثمينة لا ينبغي تفويتها، فهو برغم كل ما أُخذ عليه لاحقًا، كان يتمتع بشخصية مؤثرة على الجماهير على مستوى المنطقة العربية ككل، وهذا بحد ذاته شكّل مصدر قلق للكيان مادام عدوًّا له.
- اعتقال وإعدام واحد من أهم جواسيسهم في سوريا؛ إيلي كوهين، عميل الموساد الذي استطاع التسلل لمناصب كبرى في المؤسسة العسكرية السورية، مُدعيًا أن اسمه "كمال ثابت أمين".

وجدت أنظمة الحكم العربية جيوشها في مأزق أمام نقمة شعوبها إزاء هذا الكيان، وأمام أزمة المخيمات الفلسطينية المنتشرة في هذه الدول. الدخول في الحرب لم يكن الخيار المناسب؛ ولكنه كان الخيار الوحيد.

>> لماذا انتهت الحرب بهزيمة؟

انتصر الكيان الصهيوني، رغم قلة شعبية رئيس وزراء دولته في ذلك الوقت "إشكول"، وانعدام ثقة الإسرائيليين فيه؛ ولكنه في المقابل كان "قد شبّ في بيئة من العنف والتعصب الديني والصهيونية..."⁶، فيما افتقد معظم حكام المنطقة العربية الحافز والقناعة التامة بأن المد الصهيوني قد يطالهم، واعتبروها قضية شعب آخر، لا يكفي رابط الدين أو القومية لتبنيها.
بالرغم من الموجة القومية التي تبناها وأنشأها الزعيم المصري جمال عبد الناصر، ومحاولات الوحدة العربية وحماس الجماهير العربية لها، والمساعدات التي قدمتها بعض تلك الدول، فقد كان ثمة خلافات أخرى، وبدا أن الشعوب كانت أداة لبعض الأنظمة، تستعملها نكاية في نظام آخر، ووسط اتهام أحدهم للآخر بالرجعية ومناصرة الإمبريالية، أو بالشيوعية والإلحاد، وسط هذه التربة الخصبة نشأت خلافات بعضها بأفكار دينية، وتشعبتْ القضية، وتحوّلت قضية شعب مُهجّر إلى ورقة ابتزاز. لم تكن قضية اغتصاب الأراضي الفلسطينية أولوية، ولم يكن من الممكن جعلها أولوية في زمن قياسي يسابق سرعة الكيان الصهيوني في حشد التأييد الغربي⁷.

وفي هذا شهادة منهم لا ينبغي تفويتها، يقول ميشيل ب. أورين (كاتب ومؤرخ وسياسي إسرائيلي): "من المفارقات أن تكون إسرائيل مدينة بنجاحها إلى حدّ ما إلى العرب، إلى عدائهم الذي صان مجتمعًا كان سيظل خياليًّا، لولا هذا العداء!"⁸، يقصد هنا المجتمع الذي صنعته الصهيونية.
أما القاضية، فقد تمثلت في حالة استهزاء من العدو الصهيوني في مواجهة ثلاثة جيوش، والتجاهل التام للمعلومات الاستخباراتية حيال إمكانياته واستعداداته.

>> النتيجة المستمرة

لن أسرد إحصائيات الخسائر فلا طائل من ذكرها؛ ولكن يكفي أن يعرف القارئ بأن أهم ما تحصلت عليه دولة هذا الكيان الصهيوني -وما زالت- من هذه الحرب، ومن كل حرب خاضتها هو تمكينها من الاستيلاء على أراضٍ يستطيعون أن يضغطوا بها في مقابل تسويات تنتهي لصالحهم (كانت في هذه الحرب سيناء والقدس والضفة وكامل الجولان)، التسوية سلام المنتصر، وهي بالضبط ما تنادي به هذه الدولة المزعومة في الوقت الذي تنمو فيه وتزداد مشاريع الاستيطان.. أو كما يصف الشاعر مريد البرغوثي الأمر بالتكيف: "دائمًا نتكيف مع شروط الأعداء، منذ الـ67 ونحن نتأقلم ونتكيّف!".

>> هل ستتكيف؟

هل الحرب ضرورية؟ لا بالطبع، الشيء الضروري هو نهضة اجتماعية، سياسية واقتصادية شاملة في كل المنطقة المهددة بالمشروع الصهيوني تُحصّنها من الذوبان فيه، فابدأ بنفسك!
فهل يضمن القارئ يا ترى ألا يمتد المشروع الاستيطاني ليجده يومًا ما في الشارع المقابل لبيته؟ أم أننا ببساطة لم نعد نبالي بشيء بعد أن أنهكتنا مشاكلنا الداخلية وأسعدتْ -في نفس الوقت- ذاك الكيان؟
هل يعلم القارئ أن هذا الكيان -وعلى خلافه- يحرك جيشه بالعقيدة، ويستقبل المهاجرين من الشتات بالعقيدة، وأن قضيته هي قضية عقيدة بالأساس؟ فلنفكر مليًّا.
----------------------------------------------

الهوامش:
(1)، (2) "ستة أيام من الحرب"، ميشيل ب. أورين، ص27
(3) العملية شريدر (غارة السموع) 1966، انظر المصدر السابق ص81
(4)، (5) المصدر السابق
(6) اقتباس من المصدر السابق ص109
(7) "حرب الثلاثين سنة، 1967 الانفجار"، محمد حسنين هيكل.
(8) "ستة أيام من الحرب"، ميشيل ب. أورين، ص55

*جميع المعلومات الواردة في هذا المقال (بما فيها أسباب الهزيمة) مأخوذة ومختصرة من المصدرين المذكورين في الهوامش.


تدقيق: أبوبكر المغربي

تعليقات