*نُشرت على فاصلة، 2021
ما زلتُ أسمع صوتها بوضوح في قاع أذني، حين تتصل هاتفيًّا عبر الخط الأرضي فتسأل عنّا فردًا فردًا: "شنو حالك؟ الحمد لله يا اجديدة. شنو حال ماما وبابا؟ الحمد لله." وتنتقل إلى السؤال عن حال كل منّا بالاسم، وأنا أجيب بصورة آلية، في انتظار اللحظة التي تسألني فيها: "وين ماما؟"، فأنادي فورًا على أمي، أنا "البدّالة" باعتباري كنت -ولسنوات طويلة- آخر العنقود في بيتنا.
لم تجرِ اتصالاتها بشكل يومي، بمعدل ثلاث مكالمات أسبوعيًّا تقريبًا، مرة تكون أمي هي المتصلة، ومرة جدّتي، ولكن مكالمات جدّتي هي الأكثر رغم تكلفة "الصفر"، أي المكالمات الأرضية بين المدن الليبية في ذلك الوقت، وفي بعض الظروف الطارئة كانت تتكرر المكالمات خلال اليوم الواحد، فأمي هي البنت الوحيدة لدى جدتي.
أحداث يومنا وأخبارنا بتفاصيلها شكّلتْ تسلية لها عبر سلك الهاتف بين طرابلس وبنغازي، حتى اقتراب العطلة؛ إما عطلة منتصف العام الدراسي، أو العطلة الصيفية، لم نعرف في تلك السنوات شكل العطلة في طرابلس، فشوق جدتي إلى ابنتها الوحيدة وإلينا لم يسمح بذلك. لم تكن ثمة مشكلة في كل هذا، فقد اعتادت أمي واعتادت جدتي هذا النوع من الفراق والوصل.
المشكلة الوحيدة كانت في يوم السفر إلى بنغازي، السفر عبر الطريق البرّيّ تحديدًا، إذ لطالما دفعتْ "اجديدة" ثمن شوقها بالوقوف نصف يوم في شرفتها منتظرة طلّتنا في سيارة المازدا الرمادية العائلية، وهذا تحديدًا ما أقلق أمي على الدوام؛ وقفة اجديدة الطويلة، وتأثيرها على صحتها.
في حينها لم أستوعب لِمَ تتضايق أمي وتقلق من وقوف جدتي الطويل؟ فهذا أمر طبيعي، جدتي مشتاقة إلينا ونحن كذلك، مشتاقون إليها، وإلى ذلك الزقاق الضيّق الدافئ بالجيرة الطيبة، وإلى شارع عشرين وشارع بيروت اللذان ينتهي عندهما طرفي الحيّ، كنا مشتاقين أيضًا إلى حلواني عبير عند الركن الذي يتصل فيه الزقاق بشارع عشرين، مشتاقين حتى إلى صفوف شجر السرول الذي أحاط مدخل بنغازي معلنة عنه لافتة عريضة: بنغازي ترحب بكم... حسنًا، لم أفهم سبب ضيق أمي حتى وجدتها توصيني بصفتي "البدّالة" ألا أخبر جدتي إن اتصلت بموعد سفرنا.
هذه كانت خطة أمي في اليوم السابق للسفر:
ستهاتف جدتي إن لم تسبقها هي بالاتصال، سألجم لساني إن اتصلت جدتي أولًا، وستخبرها أمي بأننا قادمون بعد غد. في العادة لا تُجرى مكالماتهما الهاتفية يوميًّا، ولا بُدّ من فاصل يوم أو يومين، وبهكذا نفاجئ جدتي بقدومنا، ولا يدفعها قلقها علينا إلى الوقوف لساعات على الشرفة؛ أمي قلقة على جدّتي من قلقها علينا! بدا الأمر مثيرًا لي، وكأننا في سباق؛ من الذي يمنع الآخر من القلق!
نفذنا المخطط، وانطلقنا فجر اليوم التالي بسيارتنا، لا شيء في شوارع طرابلس غير السكون وإشارات المرور الصفراء تغمز له. الرحلة طويلة، تستغرق اثني عشر ساعة إن تضمنت وقفات استراحة وغداء، ومع حلول الظلام لاحت لنا من بعيد أشجار السرول مرحّبة بنا على جانبي الطريق، ثم أضواء الشوارع وزحمة المارة حتى وصلنا إلى شارع عشرين، وبدأت أشم رائحة "الفيكس" الذي تحرص اجديدة على دهن نفسها به، وكريم الشعر الأبيض ذو الغطاء الأحمر الذي تداوم على دهن شعرها الحنّي به، كنا متحمسين لمفاجأتها، ولكن المفاجأة كانت من نصيبنا نحن، إذ وجدناها تقف على الشرفة ملوّحة مُرحبة مبتهجة بوصولنا بالسلامة، وفشلتْ الخطة!
ما جرى أن قلبها لسبب ما حدّثها بأن تتصل بنا، ولما لم أردّ أنا (البدالة) ولا غيري على الخط، لأكثر من مرة في مواعيد مختلفة، مع علمها بأننا لم نخطط لنزهة طويلة، وإلا كانت علمت بالأمر في اليوم السابق، لمّا حدث هذا أنبأها حدسها بأن أمي نوت إخفاء موعد سفرنا خوفًا عليها من هذه الوقفة الطويلة... كان لجدتي قوة حدس جبارة، ورثتها منها أمي، معنا بالطبع!
ما زلتُ أشتاق "اجديدة" وأحن إلى بيتها الذي سكنه آخرون...
أتساءل كيف صار شارع عشرين؟ وأين وصل حلواني عبير؟!
ما زال بوسعي استدعاء روائح خزانتها ودواليبها، شعرها وحضنها، وأُسقط كل هذه الروائح بما تختزله من مشاعر على مدينة بأكملها: بنغازي.
ظلّت بنغازي -ربما بسبب سنوات البُعد الطويلة- في وجداني هي حضن اجديدة وحنانها وحدسها وصبرها واشتياقها، وما زال بوسعي سماع صوتها، فما زلتُ في أحلامي البدّالة، أردّ عليها عبر سماعة هاتفنا القديم، فتسألني عن أحوالنا، ولكنها لا تطلب مني أحدًا، بل تنهي المكالمة دون كلمة وداع... تمامًا كما رحلتْ.
الله يرحمك يا "اجديدة"...
---------------------------
- تدقيق | علياء بركة
تعليقات
إرسال تعليق