لم يخش الموت، خشيَ
العذاب الذي قد يسبق موته..
لهذا خرج نازحًا
من بيته على غير عادة كبار السن من جيرانه الذين ضحكوا عليه، "ليلة قبرك ما
تباتش برا يا حاج"، "تبي تعيش وقتك ووقت غيرك!؟".. لم يُفسّر لهم.
هو يخشى سقوط سقف
ما فوق رأسه، يخشى الشظايا، يخشى تلك اللحظات التي لن يتحملها جسده البالي.. يخشى ألا يموت، فيتسنى له المزيد من العمر ليفقد العجوز
التي لم يبق له إلاها.. يخشى منظر آثار الدم المتجلط المسودّ المختلط بطوب البيوت
وغبارها، تلك البيوت المهدّمة حقدًا والتي ظل يزورها ويعاينها عن قرب كلما أبرقت
السماء بالقذائف وزمجرت، وهطلتْ نارًا على الأحياء القريبة من حيه... يخشى أن تكون
هذه الدماء له أو للعجوز الطيبة التي تبدي رباطة جأش وثبات يحسدها عليهما، ويخجل
منها بسببهما...
ولهذا أيضًا حرص
على حماية نفسه وأسرته من وباء تنشره "بصيرة" يطلقون عليها اسمًا لم
يحفظه، ربما يكون اسمها "توكة"، ربما!
حرص بنفسه على
تعقيم كل ركن، كل مقبض، كل كيس وعلبة وقطعة بالماء المخلوط بالكحول، صارت رائحة
الاسبيريتو الحارقة لنسيج الأنف جزءًا من أنفه، يحتار في تعقيم الخضروات والفواكه
والخبز! فيرشّ أكياسها، يكوّم الخبز في المجمّد ليومين عساهما يتكفلان بقتل أي
"بصيرة" خاتلتْه، فيما يكدّس -بمساعدة عجوزه الطيّبة- الخضروات والفواكه
في أواني ضخمة، ينقعها بالخلّ، يضيف في غفلة من عجوزه قطرات من الكلور، وحين تفطن
لفعله تصرخ بصوت مُرهق نال منه السأم: "إن لم يقتلنا الوباء، فستقتلنا أنت
بوسوستك!"..
حرص حتى على منع
زيارة أبنائه المتزوجين له، رغم شوقه وشوق "الحاجة" للأحفاد.. فصدرها هي
بالذات لن يحتمل ما سمع بما تفعله به البصيرة، لن يحتمل رؤيتها تغرق دون أن يملك طوقًا
لانتشالها! يتذكر أن يحرص على معدّل السكر في دمها كي لا يزيد الوضع سوءًا في حال –لا قدّر الله- انتقلتْ العدوى
لها.
يخشى أن يعيش
وحيدًا.. يخشى أن يتألم.. لا، لم يكن يخشى موته كما تصوّر الآخرون.
وفي بيته
المستأجر، بيت النزوح كما سماه، ومثل كل صباح، شرّع النوافذ لتجديد الهواء، وطرد
أي بصيرة تسوّل لها نفسها الاستقرار عنده.
وعند نافذة المطبخ المُطلّة شرقًا، سها قليلا
متأملا شروق الشمس... ورحل..
لفظ روحه دون أن
يسمع حتى صوت الرصاصة اللئيمة التي استقرت في جبهته..
الخبر الجيد، أنه
رحل بلا ألم، رحل بلا وجع، رحل الأول في عائلته.. تمامًا كما أراد.
...............
مايو 2020
ردحذفتملك قصصكِ قدرةً رهيبةعلي هزّ مشاعر القارئ ليس فقط في المرة الأولي لقرأتها ولكن دائمًا، مرارًا وتكرارً.