كفوا عن بناء المساجد!



 *نُشر على فاصلة، 2018


عنوان المقال مستفز، وهذا شيء متعمد بالطبع، ولكن مهلًا، قبل أن تُسنّ السكاكين ويُحكم على كاتب المقال بالإلحاد والفجور، تريث عزيزي القارئ وتفضل بقراءة الأسطر القليلة القادمة:

من رحمة الله الواسعة بالمؤمنين، الذين يؤمنون بحياة البرزخ، أن جعل لنا أوجه مختلفة لاكتساب الأجر والثواب حتى بعد أن يوارينا الثرى ونصبح بلا حول ولا قوة؛ فجعل للميت هدايا تصله من الأحياء، إما ولد صالح يدعو له، أو علم علَّمَه وانتفع به الناس من بعده، أو صدقة جارية وهي المعنية بحديثي في هذا المقال.

من الجميل جدًّا أن يهتم أحدنا في حياته بفتح باب صدقة جارية يلقاها في قبره، أو أن يقوم أبناؤه بذلك بعد موته، فالحسنات يذهبن السيئات، ولا يعلم أحدنا كم اقترف من سيئات، وقد تكون بعضها سيئات “جارية” لما بعد موته! أفلا نفرح بنبع لا يجف من الحسنات يستمر إلى يوم القيامة؟ انتهج كثير من صحابة الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذا النهج، فقد حبسوا من أملاكهم وأموالهم صدقات (نسميها الأوقاف في عصرنا)، بعضها لا زال إلى يومنا هذا شاهدًا على أسلوبهم البديع في التفكير لما بعد الموت.

ولكن ما يثير تساؤلي حقًّا؛ لماذا يعتقد غالبية الناس أن الوقف حكر على المساجد؟ وكأن مسألة الوقف مسألة أنانية بحتة، وكأن الحكمة منها النفع على الميت فقط وطيب ذكره دون النظر للمنتفع بها! كل من مات يبنون له مسجدًا، يسمونه باسم عائلة المتوفى أو باسمه خصيصًا، حتى إن الشارع الواحد الذي لا يزيد طوله عن الكيلومترين، تجد فيه المسجدين والثلاثة! تُبنى المساجد دون العودة لشروط التخطيط العمراني في المدينة، ودون مراعاة السعة اللازمة للمصلين وفق الكثافة السكانية للمنطقة.

ألا يشتت هذا شمل المصلين؟ ألا يقلل من صفوفهم؟ ألم تعد الصفوف المخصصة للمصلين في المساجد أكثر من المصلين أنفسهم؟ وتقريبًا، كل من وقف ماله لبناء مسجد نجده يفقد تدريجيًّا الهدف الأساسي من بنائه وينجر وراء توسيع المسجد وتزيينه والمباهاة بروعة بنائه، وعند افتتاحه لا يتعدى عدد المصلين فيه الثلاث صفوف، غير المكتملة! فما كسبوا من وقفهم هذا إلا المنظر الجميل، وحديث الناس به.

ألا ينظرون لحاجة الناس؟ ألا يعلمون أن “الوقف” يؤتي ثماره بانتفاع الناس منه ودعائهم بالخير للقائمين عليه؟

لقد بحثتُ في أوقاف الصحابة الكرام، فما وجدت منهم واحدًا حبس “مسجدًا”، أجل لقد كان أول وقف في الإسلام هو مسجد “قباء”، ومن ثم مسجد المدينة “المسجد النبوي”، لحاجة المسلمين للمساجد؛ ولكن هل انتهج الصحابة بعد ذلك هذا الأسلوب نفسه؟ لا، قطعًا؛ فقد كان يُنظر لحاجة المسلمين أولًا، وبناءً عليها حبس سيدنا عثمان “بئرًا” للمسلمين، وحبس سيدنا عمر وكثير من الصحابة بيوتًا للمحتاجين.

لماذا إذًا لا ينظر أصحاب الأوقاف، إن كانت نيتهم بالفعل العمل للآخرة لا العمل لنيل استحسان البشر والسمعة، لماذا لا ينظرون إلى حاجة مجتمعهم أولًا؟

نحن مجتمع لا تنقصه المساجد، ومساجده لا تنقصها المصاحف، ولا تنقصها زوايا تحفيظ القرآن وأحكامه وأصول تجويده، وهذا شيء جميل حقًّا، ولكن ازدياد العدد لا يعني ازدياد المقبلين أو المحتاجين لهذه الخدمات.

في المقابل، يبدو جليًّا للعابر قبل المقيم في هذا الوطن، أننا مجتمع يعاني من قلة الخدمات، وقلة المرافق العامة التي تليق بآدمية الإنسان وكرامته، فما الضير من وقف مستوصف يُجهز بما لم تُبالِ به أجهزة الدولة في القطاع الحكومي؟ كتوفير ما يحتاجه الطبيب خلال عملية الكشف، بأجهزة كاملة متكاملة، ويُلحق به معمل تحاليل يوفر الخدمة السريعة وجميع أنواع التحاليل التي تحتكرها المعامل الخاصة، ما الذي يحتاجه المستوصف؟ أرض وقف، وتجهيزات يمكن توفيرها بالتبرعات ذاتها التي تبني مسجدًا وتزينه بأبهى حُلة، أما عن خدمات الكشف والتمريض والنظافة فهذه بقليل من الدعاية ستلقى إقبالًا من المتطوعين الراغبين في التصدق بعلمهم أو ببعضٍ من أوقاتهم، الفرق بينهم وبين العاملين في القطاع الحكومي أن أولئك يمنون عليك أنهم يعملون دون مقابل يذكر من الدولة أو يتحججون بنقص إمكانياتهم التي تعيقهم عن خدمتك! أما المتطوعون، فهم ببساطة: متطوعون.  أما الكيفية التي يتم بها توفير مبالغ صيانة المساجد الموقوفة فهي نفسها التي يمكن بها توفير تكاليف صيانة المستوصف الموقوف.

هذا مثال، هناك عدة مجالات أخرى، كإنشاء مكتبة، أو بئر وخزان مياه للحي خاصة في ظل الانقطاعات المتكررة للمياه، أو مدرسة ابتدائية بمستوى المدارس الخاصة ولكنها مجانية، او ما قد يجود به عزيزي القارئ من أفكار قد تغيب عن كاتب المقال.

جميلة هي مساجدنا، والأجمل هو أن تزخر بالمصلين، والأجمل من كل هذا أن تكون لله، وإن كانت لله فما الذي يمنع من أن تؤاخيها أوقاف أخرى لا تقل أجرًا وثوابًا؟.

تعليقات