عُشب المرج الآخر

 


*نُشرت على فاصلة، 2019


"لو كنت تحبها حقًّا لما تركتَها تُفلت من بين يديك، أنت من تخلى عنها."

"كلّا، لم أتخلَّ عنها، لقد طلبتُ منها أن تنتظرني، وأن نكف عن الانفراد ببعضنا في القاعات، أخبرتها بأني لا أرضى أن تتناولها الألسن بالقيل والقال في المعهد، وبأني سأسعى للتقدم لها بمجرد أن أصبح جاهزًا لهذا، وقطعتُ لها وعدًا!"

"اسمع، النساء تحب أن تشعر بغيرتنا عليهن؛ ولكن شرط ألا نستخدم العقل والمنطق، كن مجنونًا تثبت لها حبك، كن عاقلًا وستفهم هي بأنك تتحجج بطريقة دبلوماسية للانسحاب من العلاقة، وهذا ما حصل صدقني."


هل هذا ما حدث فعلًا؟ يحاول أخي جاهدًا أن يعيدني إلى رشدي الذي غاب منذ أسبوعين، بعد أن وجدتها تطلب مني "الصداقة" عبر "الفيسبوك". لا أدري ما الذي حل بي في حينها، ضربتني برودة في أصابعي، ورعشة خفيفة في صوتي، ظهر عليّ الارتباك في لحظتها حين جلست زوجتي بجانبي تحمل لي فنجان القهوة، أقفلتُ جهازي فورًا، حتى أنها انتبهت لما حل بي، وسألتني إن كان هناك خطب ما قرأته أو سمعت به، ازدردتُ ريقي، ورأيت عينيها تركزان على "تفاحة آدم" في رقبتي وهي ترتفع وتنخفض ببطء شديد، يبدو أن قدر التفاحة الارتباط بضعفنا أمام شهواتنا، أعلم جيدًا أنها لم تصدقني حين تظاهرت بأن لا شيء جديد، من حيث الحقيقة، فلا جديد حقًا، الأمر برمته متعلق بالقديم، ذكريات قديمة، لمسات وهمسات، أحلام وطموحات، أمنيات ووعود، اختفت في لحظة قررتُ فيها أن أكون رجلًا شهمًا ونبيلًا، فإذا بموقفي يُفهم بطريقة معكوسة، وإذا بأخبار حبيبتي الأولى تأتيني كالصاعقة بزواجها بعد تخرجنا من المعهد مباشرة، وإذا بي أقرر طي صفحتها وأتزوج من أول "بنت حلال" تختارها لي أمي.


هل نسيتها؟ لا بالطبع؛ لكني اعتدت فكرة تخليها عني، أما الآن وقد دقت بابي؛ فهذا يعني أنها تذكرني، كيف عثرَت علي؟ ليس هناك أصدقاء مشتركون! لست ممن يسجلون تفاصيل أماكن دراستهم، لا بد من أنها بحثت عني بالاسم. ترى، ما الذي جعلها تتذكرني بعد هذه السنوات وتكلف نفسها عناء البحث عني؟ الغريب أني لم أجد الأجوبة على أسئلتي رغم أننا لم نتوقف عن الحديث معًا طيلة الأسبوعين المنصرمين، الأمر لم يتوقف عند الفيسبوك، إنما كان وسيلة ربط، أعقبناها بتبادل أرقام هواتفنا ومن ثم باتصالات قصيرة متقطعة، وكأنما أرادت أن تتحدث مطولًا؛ ولكنها تغير رأيها بمجرد أن تسمع صوتي، أو ربما كانت تخشى أن تتمادى فيأتي زوجها، وهي كما عرفتها تكره أن تفقد "برستيجها" فيما يتعلق بالأحاديث المطولة، تكره أن يقاطعها شيء، تكره أن تُبتر كلماتها، نعم، لهذا ابتعدت عني، لأني قمت ببتر شهوتها في الالتصاق بي والإسهاب في الحديث، آه من أحاديثها التي لا تُمل، آه من صوتها الذي يأتيني كعاصفة "قبلي" تُعمي بصيرتي!


كان الأمر مرهقًا بالنسبة لي؛ فقد اضطررت إلى البقاء معظم النهار خارج المنزل، سائحًا في المدينة على أمل أن تتصل بي في أية لحظة، لم أستطع المجازفة بالعودة إلى البيت، خفت أن تتصل بي ولا أجد الفرصة للاختلاء بعيدًا عن زوجتي وابني الصغير، خفت أن يعكر صوت ابني محادثتنا فتقرر أن تقفل الخط، ورغم أنها تسألني في كل مرة عن زوجتي أهي بجانبي أم لا، إلا أني لم أرِد أن تكون الإجابة في أية مرة من المرات بـ"نعم"؛ فماذا أفعل بشوقي لصوتها إن فوتُ على نفسي الفرصة بجلوسي في البيت؟

دوختني، حكيت لأخي، وها هو لا يفعل شيئًا إلا أن يلومني على عقلانيتي التي أبعدتها عني، ليتني لم أخبره.


"معتز... هييي! وين سرحت؟"

"اللوم لا يفيدني، جد لي حلًّا آخر."

ها هو يضحك بشدة، وأندم بشدة لأنني مازلت أواصل الحديث معه...

"لو لم تكن على ذمة رجل لقلت لك تزوجها وأمرك لله، أو بالأحرى أمر "سميرة" لله، رغم أنها لا ذنب لها في قصة حبك الفاشلة؛ ولكن "صفاء" مازالت على ذمة رجل، لم تخبرك عن أية مشاكل بينهما، ليست "حرجانة" عند أهلها مثلًا كي يتكون لديك الأمل في طلاقها، لا شيء! لا أمل في علاقتكما، انتهِ منها فورًا ولا تزلزل حياتك المستقرة، اسمع نصيحتي... اسمع، لا تُطل التفكير في الأمر، أساسًا لا أدري كيف تحافظ على شعورك نحوها وهي الآن سيدة متزوجة تتصل بحبيبها السابق! من أين تجد لها الاحترام؟"




ما أغباني، كيف أفكر أساسًا في مستقبل علاقتي بسيدة متزوجة؟!
هذا الوضع غير مريح، عليّ أن أتجاوز عتبة التظاهر بأننا ما زلنا مراهقين في مرحلة التعارف والشغف، عليّ أن أسكب على رأسها كل هواجسي، عليّ أن أفتح في وجهها تيار الهواء الساخن الذي أشعلت ناره في فؤادي، عليّ أن... ها هي تتصل بي!
"أيوه"
"أهلاً معتز، هل وضعك يسمح لك بالتحدث معي؟"
أجدُ في نفسي ترددًا، ماذا لو اختفت من حياتي مجددًا إذا صارحتها بكل هواجسي وتساؤلاتي؟ ماذا لو هربت مني؟ لكن أليس غيابها أخفَّ وطأة من وجودها بهذا الشكل الغيابي في حياتي؟
"منذ بدأنا الاتصال ببعضنا ووقتي دائمًا كان متاحًا لكِ يا صفاء، ألم تسألي نفسك لماذا وكيف لرجل متزوج وله ابن أن يفعل ذلك؟ الإجابة ببساطة لأني في وضع انتظار دائم لمكالماتك القصيرة المتقطّعة التي لا تزيدني إلاَّ شوقًا لصوتك وفضولاً لمعرفة السبب الذي دفعك للاتصال بي بعد كل هذه المدة؟ أبقى طيلة يومي سائحًا في المدينة، بين مقاهيها وأرصفتها، لأجل بضع مكالمات لا تتجاوز العشر دقائق، كُنت قد اعتدت نسيانك، كُنت قد اعتدت اعتبارك ذكرى بدأت تتلاشى تفاصيلها شيئًا فشيئًا، هل شعرتِ بذلك وقررتِ من باب الغيرة أن تعيدي كتابة ما فات؟ لماذا الآن بعد فوات الأوان؟"
"مهلاً، اسأل سؤالاً واحدًا في كل مرة وسأجيبك، لا تطلب منّي إجابة مختصرة عن كل هذه الفوضى التي تملؤك"
وكعادتها التي كدت أنساها، ما زالت تواجه انفعالاتي بهدوء مستفز، لا أدري من أين تأتي به!
"حسنًا، سأبدأ بهذا السؤال: لماذا لم تنتظريني؟"
"كنت في انتظارك؛ ولكنَّ أحدهم تقدم لي خلال فترة كنت أمرُّ فيها بانتكاسة في تكوين شخصيتي، يصعب عليّ شرحها لك هاتفيًا"
"إذًا إليكِ السؤال التالي: أين سنلتقي؟ أريد إجابات عن أسئلتي، لن أرضى بممارسة لعبة "اتصل واربح شوقًا" معك بعد الآن، أريد موعدًا، ولن تنهي هذه المكالمة قبل أن تعطيني موعدًا دقيقا نلتقي فيه"
ما بالها سكتت؟ هل تفكر في الموعد أم تفكر في الطريقة التي ستخرج بها من الورطة التي صنعتها بنفسها؟ ربما عليّ أن أتراجع عن طلبي، قبل أن تختفي من حياتي مجددًا.
"حسنًا، صفاء أنا..."
"لحظة، أمهلني اليوم أو غدًا كي أنسّق برنامج نلتقي فيه، فأنا لا أعمل، ولست معتادة على الخروج إلاَّ لغرضٍ يخصُّ البيت أو الواجبات الاجتماعية، سأحدد لك الموعد في المكالمة القادمة، عد لبيتك، سأرسل لك رسالة أكتب فيها كلمة "اتصال" قبل مكالمتي بربع ساعة كي تخرج من بيتك أو تجد لنفسك حلاً يناسبك، إلى اللقاء"
أغلقتْ الخط فورًا دون أن تسمح لي بطرح أيِّ استفسار، أصابتني بحالة من الشلل، أدخلتْ دماغي في حالة من غياب المنطق، وعاد جنون المراهقين يشتعل في صدري، استخففت بنفسي، عانيت من الشعور بالذنب تجاه زوجتي التي ما عدت أرغب في لمسها، عانيت من الشعور بالذنب حتى تجاه ولدي الذي كنت أريد له أمًا أخرى، فإذا بهذه الأخرى تأخذني منه.
********************
ها قد مرت أكثر من أربع وعشرين ساعة، لا رسالة ولا حتى اتصال قصير ترحمني به، ليتني لم أطلب منها موعدًا، لقد أدمنتها، أدمنت تلك الجرعات المخففة منها، وإذا بي كأيِّ مدمن جشع أطلب منها المزيد، فتتمنع ويصبح الوصول إليها أصعب.
هل أجازف وأتصل بها؟ لكنها في أول اتصال حذرتني من هذا، وأخبرتني بأني سأضعها في مأزق كبير، يبدو أنها ما زالت تضع ثقتها في شخصي، وما زالت تدرك جيدًا أني أكنُّ لها مشاعر تجعلني أخشى عليها مما لا تُحمد عقباه.
وضعي في منزلي كالحاضر الغائب، لا تكفُّ "سميرة" عن التلميح بحالتي الغريبة مؤخرًا، ترى هل استشعرت خيانتي؟ لماذا أهوّل الأمر؟ هذه ليست خيانة، هذه دفاتر قديمة بقيت مفتوحة وحان اتخاذ القرار المناسب تجاهها، هل أغلقها نهائيًا وأحرقها أم أنفض عنها الغبار، وأواصل الكتابة فيها؟
صرت أنتفض كلما سمعت صوت التنبيه بوجود رسالة، كرهت شركة الاتصالات التي لا تكفُّ عن إرسال رسائلها حول المعارض أو التبرعات أو البرامج أو خدماتها "منقطعة النظير"، ورغم هذا لم تخف وطأة صوت الرسائل في كل مرة، رأيتها أخيرًا، رسالتها، حبل نجاتي، أم تراه حبل مشنقتي؟
تحججت بموعد طارئ، رغم أنَّ التوقيت لم يكن مناسبًا، إذ تجاوزت الساعة العاشرة ليلاً، لكن هل سأبالي الآن بالمنطق وقد فاحت رائحة الشكِّ لدى زوجتي وحدث ما حدث؟!
"ألو، ها.. وين وأمتى؟"
"الأحد الجاي، الساعة العاشرة صباحًا، تحت كوبري الودان، جهة الكورنيش"
"الأحد الجاي! هل سأصبر أربعة أيام أخرى؟ ارحميني، أنتِ لا تعلمين ما الذي عانيته في انتظار صوتك! كيف سأحتمل عناء انتظار رؤيتك؟"
"معتز.. لست وحدك من يعاني، لكن لا تنسى، أنا سيدة متزوجة"
رعشة واضحة انتابت صوتها عند نطقها بالكلمة الأخيرة.
"حسنا، هل ستتصلين بي حتى ذلك الحين؟"
"لا، سأدخر كل الكلمات لذلك اليوم، أذكرك، لا تتصل بي مهما بلغ بك الشوق"
لديها الثقة في تأثيرها عليّ، وهل أقوى على نكران ذلك؟
"إلى الأحد إذًا"
أربعة أيام، وخمس ليال! أين هو زر التسريع الذي لا تخلو منه أيُّ آلة عرض وتسجيل؟
الليلة الأولى نكلت بي أشد التنكيل، هل أصبر لأنال جائزة لقائها؟ أم أجازف وأخبرها بأن تنسى أمر اللقاء ونستمر في لعبة الاتصالات المتقطعة؟ هل تراني بت أهرب إليها من واقع ما آلت إليه الأمور بيننا، من واقع أن كلانا متزوج، وأني والد لطفل رائع، وأن زوجتي لا تشكو من أي خطب أقذفها به إن قبضت عليّ متلبسًا بجرم خيانتها كما يفعل الرجال حال اكتشاف زوجاتهم لخياناتهم، كيف سأجعل من سميرة شمّاعة لخيانتي؟ عليّ أن أفكر في علة في شخصيتها أو أدائها معي، ولكني لا أجد ما أعلّقُ عليه إخفاقي في حفظ قلبي لها، هل أتهمها بالتقصير معي في الفراش؟ لا أحد يستطيع مناقشتي في أمر فضفاض كهذا، ولا أحد يعلم حقًا شكل علاقتنا، ولن يتساءل أحد عن التفاصيل فالحمد لله نحن مجتمع "محافظ"، سيصدقونني وسيصمتون.
وهي؟! لن تجرؤ على تفنيد هذا، لن تجرؤ، ستصمت، وستبكي كثيرًا.



وصفاء! هل تراها تملك سببًا وجيهًا لخيانة زوجها؟ أم أنها جحودة مثلي؟ هل تراه زوجًا متسلطًا قاهرًا لها؟ لا بد من أن يكون كذلك، وإلا لكانت سيدة تعمل لا ربة بيت، هذا ما عرفته عن حياتها الخاصة إلى الآن، عرفتها فتاة طموحة مليئة بالخطط والأحلام والتمنيات، لا بد من أنه هو السبب وراء دفنها حية بين أربعة جدران، ربما أجبرها على تغطية خصلات شعرها الأحمر الحريري، بل وربما أجبرها على تغطية وجهها الملائكي؟ أنا لا أفعل هكذا بزوجتي، لقد قررت المكوث في البيت بملء إرادتها، أساسًا لم أسمع منها في أي يوم من الأيام أي حديث عن طموحات أو أفكار تخصها في أي شأن، وكأنها خُلقت لخدمتي وتسليتي، لقد أحسنوا تربيتها زوجةً حسنة التبع لزوجها؛ ولكن هناك قطعة مفقودة في لوحة زواجنا لا أجدها، لماذا أصارح نفسي الآن بهذه الأمور؟ متى بالضبط بدأت أشعر بهذه الأمور وأعطيها هذا الحجم؟ آلآن بعد أن ظهرت صفاء؟


لا أستطيع النظر في وجه سميرة، لا أستطيع مداعبة طفلي، لا أستطيع إخفاء دخان المحرقة التي تعتمل في صدري، ولا أعرف هل هي محرقة شعور بالذنب أم شوق للقاء بقيت عليه أربع ليال؟ سأذهب بها وبابني إلى بيت أهلها، سأخبرها أني أعمل على مشروع مهم مضطر لإتمامه في البيت لأن ساعات العمل لا تكفي، وأني أحتاج لخلوة كي أنهيه، ستصدقني كالعادة، وسأخذلها لأول مرة.


ما الذي دفعني لاستباق الموعد ساعة كاملة؟ ذكرني شعوري هذا بنجاحي في الصف الرابع الذي خضت فيه تجربة الاختبارات والامتحانات لأول مرة، وعدتني أمي بلعبة رجل آلي متحول، كان لعابي يسيل لها وهي معروضة عامًا كاملًا على واجهة محل عمي فرج، وعدتني بشرائها لي حال نجاحي بتفوق في ذلك العام، نجحت، أعطتني أمي ما أشتري به لعبتي المنتظرة، ذهبت قبل أن يفتح عمي فرج دكانه بساعة كاملة، كنت أعلم بموعد فتح الدكان؛ ولكني لسبب مجهول فضلت البقاء واقفًا ساعة كاملة وكأن لعبتي ستطير مني في ذلك اليوم إن لم أكن أول الحاضرين للدكان، رغم أنها منطقيًّا لن تفعل بعد أن بقيت أشهرًا في نفس موقعها على الواجهة حتى غطاها الغبار! أذكر أنني انتظرت لحظة امتلاك تلك اللعبة أشهرًا طويلة؛ ولكني فرحت بها سويعات قليلة ما لبثت بعدها أن ركنتها رفقة بقية ألعابي! هكذا كانت الأشياء البعيدة دومًا تبدو لي أجمل، فالعشب دومًا، يبدو أكثر خضرة ونضارة عند المرج الآخر، البعيد.


ثلاثة أيام عادت بي عشر سنوات إلى الخلف، تحدثنا في اليوم الأول عن أوضاعنا الحالية؛ ولكننا تجاوزناها في اليومين التاليين، وكأننا أردنا استكمال قصة حبنا التي بقيت دون نهاية.

تحدثت هي مطولًا عن قصة انتظارها لي، ومن ثم زواجها الذي لم يكن في الحسبان، توقعاتي كلها كانت محض ترهات وأفكار نمطية عن مبررات خيانة الزوجة، زوجها -للأسف- لم يكن قاهرًا لها، إذ ما زالت تكشف عن شعرها، لم يتغير أسلوب ملابسها ولا تبرجها، تناست فكرة العمل بمحض إرادتها لنفس السبب الذي دفعها للزواج والتوقف عن انتظاري، رغبتها المحمومة في أن تصبح أمًّا في فترة ما من عمرها كلفتنا فقدان بعضنا، أخبرتني بأنها بعد تخرجنا أرادت بشدة أن تراني وأن تستعجلني بالتقدم إليها، إلا أني كنت قد أغلقتُ ذلك الباب بحجة المحافظة عليها؛ فإذا بي أفقدها، أخبرتني بأن فطرة الأمومة فيها اجتاحتها كفيضان عارم، ورجحت السبب لزواج شلة صديقاتها وتحولهن إلى أمهات سريعًا، رغبتْ بشدة في الحصول على مخلوق صغير مثلهن، رغبتها جعلتها تحقد علي؛ فقد كنت في نظرها العائق أمام تأخرها عن الحصول على هذه المنحة العظيمة، ومع تقدم أول خاطب، وافقت فورًا، لم تهتم بشخصه رغم أنها أكدت لي أنه رجل نبيل؛ ولكنها لم تحبه، أحبت فيه فقط تلك النطفة التي ستجعلها أمًّا؛ ولكنه لم يمنحها الشيء الوحيد الذي انتظرته منه، لم تعمل لانشغالها بهذا الأمر، لم تتوقف عن العلاج داخل البلاد وخارجها، ثم اكتشفت لاحقًا أنها السبب لا هو، قدّرت فيه صبره وعدم التلميح لها بالزواج من أخرى كي ينجب طفلًا رغم تلميحات شقيقاته ووالديه؛ ولكن مع الأيام شعرت بأنها سجينة شعورها بالامتنان، أزعجها إحساسها بأنه يقدم لها معروفًا بصبره عليها، ونفسها لم تتقبل أن تكون الخاسرة في لعبة الزواج التي كلفتها حب حياتها، قررت العودة للماضي، وكأنه أمر سهل، وكأنه زر منحته التكنولوجيا لنا مجانًا؛ ولكن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة لي، فالثمن كان مؤجل الدفع.


ثلاثة صباحات على الكورنيش، استطاعت فيها صفاء أن تعود معشوقتي كما كنا في المعهد، سمحت لي بلمس يديها، سمحت لي بتقبيل كفيها، وكأني رجل لم يعاشر امرأة يومًا، وكأني أتذوق للمرة الأولى تلك الشهوة التي لطالما ظننت بأني المتحكم الوحيد بها!  أما أنا فكانت مكالمات سميرة طيلة هذه الأيام كناقوس هم يدق بابي، ويهدم لذتي، ويجلدني بسياط الذنب، لم أكن أرد على مكالماتها، لم يكن صوتي الذي باح بأعذب كلمات الحب لصفاء صباحًا بقادر على مجاملة زوجتي سميرة مساء! واعترفت لنفسي بأني رجل نذل.


في اليوم الرابع، وأثناء تحضيري للقاء آخر في سلسلة لقاءات لم نكن نعلم إلى أين ستمضي بنا، جاءني اتصال من نسيبي "رؤوف"، خال ابني، وصديقي الذي كانت علاقتي بصفاء هي الشيء الوحيد الذي لا يعرفه عني، ترددت كثيرًا قبل أن أرد عليه، وإذا به -وكما هو متوقع- يصرخ في أذني الممتلئة بصوت صفاء تلك الأيام: "تي وينك يا راجل؟ خيرك ما تردش على مرتك؟"

 "أنا قلتلها إني مشغول هالأيام... شن فيه؟"

"ما نبيش نخوفك؛ لكن أحمد راقد في المصحة اللي جنب حوشنا."

سقط قلبي في معدتي تلك اللحظة، شعرت برغبة شديدة في التقيؤ، وأول ما خطر ببالي لحظتها هو أن بركات خيانتي قد هلّت، وحان موعد قطافها، لماذا استعجل الله بعذابي؟ لماذا لم يتركني أغرق قليلًا في بحور الخطيئة اللذيذة؟ أليس الله هو الذي يمهل ولا يهمل؟ لماذا لم يمهلني مدة أطول؟ هل ثلاثة أيام تستحق أن يدفع ابني الثمن؟

عرفت منه بأن نزلة معوية قد حلت به؛ ولكن المشكلة كانت في نتائج التحاليل الروتينية التي اتخذتها المصحة، فقد كانت صفائحه الدموية قليلة جدًّا، والسبب غير معلوم.


في اللحظة التي انطلقت بسيارتي لأجل طفلي، حاضري ومستقبلي، اتصلت بي صفاء، الماضي الذي فتح نيرانه في وجهي، بل في وجه أسرتي بالكامل، فصلتُ عليها الخط، بعثت برسالة اعتذرت فيها عن موعدنا، استمرت في الاتصال ولكني حرفيًّا، لم أبالِ!

دخلتُ غرفة أحمد في المصحة، شاهدت سميرة بعينيها المتقدتين خوفًا وجزعًا، بمجرد رؤيتي جلست على السرير، وجهها للستار الفاصل وظهرها لي.

عقبت ذلك اليوم أيامٌ مرت سريعًا، كثرتْ التحاليل، أنهكوه بالحُقنْ والأدوية، دون معرفة ما الذي يعالجونه منه تحديدًا! وأنهكني بطء ظهور نتائج التحاليل والصور، بدأت بإجراءات السفر به، ونحن على أمل ألا يكون الخطب جللًا، انهمكت سميرة معي في التجهيز، ونسيَتْ أيام الجفاء الثلاثة وما سبقها من إهمال متعمد لمشاعرها.


وفي خضم محاولاتي لإنعاش عُشب المرج الخاص بي، في خضم محاولاتي لإزالة العشب الضار، وسقاية التربة التي كادت تجدب، في خضم رعايتي لأسرتي، لم أعد أهتم للمرج البعيد، لم أعد أبالي بخضرته ونضارته وعبقه.


تمت.

تعليقات