مع المدوّنة الليبية/ ملاك التائب

 


احكيلي على نفسك شوية كمقدمة بسيطة...

بدأت رحلتي "المعلنة" في الكتابة باسم مستعار؛ "سيدة عادية"، وهذا تقريبًا لأني لا أستطيع تعريف نفسي بغير ذلك، أنا سيدة عادية تعيش في ظروف شبيهة جدًّا بآلاف الليبيات، زوجة تقدس الحياة الزوجية، أم تحب أبناءها وتكره ضعفها أمامهم، كنت معلمة لفترة ما ولا أدري هل سأستمر أم أتوقف عنه بعد ما نالت من التعليم تشوهات عامًا إثر عام... ومع كل هذا فأنا أكتب، هذا ما زاد من عدد أصدقائي، وهذا ما جعل اسمي يُعرف إقليميًّا وهذا ما أعتز به، ولولا الكتابة لم يسمع أحد عني، فبطولات النساء الليبيات، الفردية، اليومية تحدث في صمت، وتُعدّ أمرًا عاديًّا ما لم تقترن بإنجاز ظاهر للعيان، غير أن اعتزازي ببطولاتي الفردية العادية هذه لا يقل عن اعتزازي بكتابتي وحبي لها.

 

امتا بديتي فالكتابة و كيف تقدري توصفي رحلتك ككاتبة؟ 

أبعد ذكرى يمكنني التقاطها بالكتابة ربما تعود إلى المرحلة الثانوية مطلع هذه الألفية، كنت أكتب عن القدس والقضية الفلسطينية قصصا وبعض الخواطر، ثم انضمّت العراق بعد احتلالها لأوراقي جنبًا إلى جنب مع القضية الفلسطينية! وانطلقت بعدها تدريجيا لكتابة قصص ومقالات اجتماعية وعاطفية، نشرت بعضها في منتديات عربية باسم "بنت طرابلس"، متأثرة في كتاباتي بغادة السمان ونزار قباني بالدرجة الأولى... في الجامعة، اختلط الأمر، وتدخلت مشاعري الخاصة وتجاربي الشخصية في ما أكتب، بدأ أسلوبي يتخذ شكله الخاص مع تنوع الكتب التي صرت أقرؤها، توقفت عن الكتابة في فصول دراستي الأخيرة وبعد زواجي ببضع سنوات، عدت بعدها بنصيحة من بعض الصديقات، أنشأت مدونتي الخاصة، لمجرد المشاركة، حتى تلك اللحظة لم يخطر ببالي أن أكتب كتابًا، حتى اكتشفت يومًا أن مدونتي لم تكن إلا وسيلة لطريق أوسع، شاركت –للمرة الأولى- في مسابقة محلية للقصة القصيرة صيف 2017، وفازت قصتي "المحروسة 1785" بالترتيب الأول فازدادت ثقتي بقلمي، انضممت بعدها مباشرة لمنصة فاصلة أول نشأتها، وكانت الانطلاقة التي تجرأت بفضلها على كتابة الرواية، ورفع سقف طموحاتي.
رحلتي كانت ممهدة ومرسومة على غير علمي وبغير إرادتي، أنا ممتنة لكل مرحلة مررت بها، إذ لم يكن من الممكن لي أن أكون ما أنا عليه اليوم دون مروري بكل تلك الأطوار.

 

من اهم الملهمين ليك فالرحلة هادي؟ 

الكثير من الكُتب صديقتي ملاك، ثمة أهل وأصدقاء آمنوا بقلمي؛ ولكن المحرّك الأول كان الكِتاب، بالأخص كتب التاريخ والسيرة الذاتية.

 

 

شن كانت الفكرة وراء كتاب عايدون و شن هي المصاعب اللي واجهتيها في كتابة الكتاب و من اهم الداعمين ليك في رحلة الكتاب هذا و قداش خدي منك في كتابته؟ 

قفزتْ فكرة رواية "عايدون" من سطر في كتاب سيرة ذاتية للسيدة "رباب أدهم"، وهي عَلَم في تاريخ قطاع التعليم الليبي منذ أيام المملكة الليبية، عششت في خلايا دماغي، فكرة "الإقصاء" تحديدًا بتنوع أشكاله وتفاوت حدته أسَرَتْني، إلا أن "العايدون" كانوا محور هذه الظاهرة في روايتي، مضافًا إليها بعض ظواهر الإقصاء الأخرى، كإقصاء المختلف سلوكيا عن المتعارف عليه، أو إقصاء المختلف سياسيًّا، سواء في الدولتين السابقتين أو في الدولة الجديدة التي ينبغي أن تحمي حرية التعدد السياسي بدل أن تطمسها، أو إقصاء المختلف اجتماعيًّا، كفئة الأرامل اللواتي يرفضن الانصياع لما يفرضه عليهن المجتمع بعد ترملهن!

 

تأثرت بشكوكي الداخلية كثيرًا، وارتبت حيال جدوى ما أكتبه، وخفت –للحقيقة- أن تجر كتابتي لي مشاكل لست مستعدة لمواجهتها، فالمرأة في المجتمعات الشرقية، ومجتمعنا تحديدا، حين تكتب، يعتبرها جُلّ قومها تكتب سيرة ذاتية، وحصل أن اعتقد الكثيرون بأني أكتب قصتي، سألني الكثيرون إن كنت "عايدون"، وأحدهم سألني إن كنت أُدخّن لمجرد أن بطلة الرواية سيدة مدخنة! ضايقتني هذه الاعتقادات لأنها اتهام غير مباشر بأني لا أملك مخيلة كافية لأكتب قصص أناس متخيلين وإن كانوا مستوحين من الواقع! ترددت أحيانا كثيرة، إلا أن شقيقتي فتحية، وزوجي، وصديقتي أميرة دفعوني للاستمرار، مؤمنين إيمانا مطلقًا بجمال الفكرة وأصالتها ونجاحها..

 

قبل أن أبدأ في طباعتها، كانت الرواية شبه مكتوبة في عقلي قبلها بعام تقريبا، عام من التخيل والبحث بين الكتب والصور والفيديوات القديمة والحديثة في تاريخنا، حفزني لوضعها موضع التنفيذ إعلان عن مسابقة مي غصوب التي أعلنت عنها دار الساقي اللبنانية، كتبت مسودتها الأولى في ثلاثة أشهر، واستغرقني الأمر ثلاثة أشهر أخرى لتعديلها مستعينة بصديقتي، أرسلتها لدار النشر، وواصلت تعديلها خلال ثلاثة أشهر أخرى بعد التسليم وقبل إبلاغي بنتيجة المسابقة، في إصرار مني على نشرها، حتى وإن لم تفز؛ ولكنها –والحمد لله- فازت!

 

شن اكثر حاجة تعلمتيها من الكتابة بشكل عام؟ و من عايدون بشكل خاص؟ 

 

تعلّمت من "عايدون" كيف أكتب الرواية، فالمقالات التعليمية وحدها لا تكفي، عليك أن تخوض التجربة لتعرف عما يتكلم هؤلاء الكُتاب حين يتحدثون عن تجربتهم في كتابة الرواية، هذا أولا، أما ثانيًا، فقد تعلمت الصبر، الصبر، والكثير من الصبر، فكتابة الرواية عملية تراكمية موجعة، فيها الكثير من الشك في الذات؛ ولكنك مضطر للاستمرار كي تعرف، هل شكوكك في محلها أم أنها محض وسوسة!؟

أما الكتابة بشكل عامّ، فقد علمتني أن أحب، وأغفر، وأفكر بألف عقل وعقل... علمتني أن أغفر لنفسي أولا، علمتني أن الكاتب ليس إلهًا معصومًا عما يقع فيه بقية البشر، وأني لولا أخطائي وصراعاتي الذاتية وحساسيتي المفرطة حيالها؛ ربما لم يكن بإمكاني التقاط كهارب المعاني وإسقاطها على الورق في صورة أبجدية.

 

نتذكر انه قبل ذكرتي علاقة الكتاب بإبنك لو انا ذاكرتي صحيحة. احكيلي شوية على علاقة الكتاب بعيلتك؟ 

رافقتني كتابتي لعايدون فترة حملي بابني الأخير، وكأنما وُلدتْ معه، فقد أرسلتها لدار النشر قبل موعد ولادتي بيوم، حرمتني من التفكير الاعتيادي في العملية القيصرية التي كنت مقدمة عليها، حرمتني التفكير في مستلزمات ولادتي والقلق حيال صحتي وصحة طفلي، وهذه نعمة أنا ممتنة لها، خاصة مع انتكاستي الصحية التي تعرضت لها قبل ولادتي بثلاثة أشهر وفي خضم كتابتي للرواية، ربما جُننت لو استسلمت لمخاوفي الصحية! حتى حين يزورني القلق او الهلع بين الحين والآخر، كان مشروعي موجودًا باستمرار لانتشالي من الغرق.

إذًا، وُلدت "عايدون" مع ولادة ابني الصغير "مؤنس" (وهو طفلي الرابع)، فاعتبرتها "طفلي" الخامس، رجوت لها ما أرجوه لأبنائي؛ حب الناس، والقبول.

 

اي نصائح للكاتبات الليبيات بالنسبة لعملية نشر الكتب او الكتابة بشكل عام؟ 

المرأة حكاءة بارعة، بطبيعتها، جلسة "هدرزة" في المطبخ كفيلة بخلق رواية من العدم! ولديها من المعرفة -المكتسبة بصوة عفوية- ما يخوّلها للكتابة والتأليف، فعلى عكس الرجال، للنساء إطلالة على عالمها وعالمه معًا، تخولها لفهم طبيعة تفكيره ومخاوفه واهتماماته، خاصة إن نشأت في بيت يكثر فيه العنصر الرجالي، بينما يعجز معظم الرجال عن فهم النساء، وإن كانت بيوتهم مزدحمة بهنّ!

ما ينقصنا في ليبيا هو الثقة، تحتاج الكاتبات إلى الثقة بأقلامهن، والمجازفة بنشرها، ومواجهة عواقب ذلك برأس مرفوع، وصدر رحب، فالكتابة للأدراج المغلقة ليست تجربة حقيقية.

عزيزاتي الكاتبات الليبيات، اكتبن للكتابة، لا للنشر، حين تفعلن ذلك ستحصلن على الفرصة المناسبة للنشر في الوقت المناسب، فالكتابة العظيمة التي تستحق النشر لن تتحقق إلا بالممارسة والتضحية بعديد من المسودات. غلّفن أنفسكن بسدادة أذن ضخمة أمام كل ما قد يثبط عزائمكن، على مثيلة: "الليبيين ما يقروش... الظروف ما تسمحش... الكتابة للناس الفاضية"... إلخ

لكلّ منا وسيلة يقاوم بها، ونحن أحوج الناس في ظروفنا هذه للتمسك بالمقاومة، إذ لا بديل عنها إلا الجنون، إن كانت وسيلتك في ذلك هي الكتابة، فاكتبي.

تعليقات