سلف ودين

 


*نُشرت على فاصلة، 2021


لا دخل لأغاثا كريستي بما أفعله، ولا دخل لستيفن كينغ أيضًا!


كل ما أفعله الآن نابع من شعور عميق بالقهر يا صديقي، هل جربته؟ أنت الذي تحترف سرقة الكتب بحجة استعارتها! لا داعي لتجيبني، فأنا سأجعلك تتذوق مرارة ما أذقتني! لا تبكِ الآن هيا! وفّر دموعك للآتي.


عام كامل يا صديقي اللدود... اثنا عشر شهرًا مُحتفظًا بكُتُبي السّتة... لماذا؟ أهذا جزائي منحتك الثقة التي لا تستحق؟ هل كنتُ أحمقًا فعلًا لأني أعرتك بعض كتبي؟


ألا تدري أن من يلعب بالنار لا بد أن تحرقه؟ والحياة يا صديقي "سلف ودين"، وعليك الآن دفع ديونك.


لا تحاول الصراخ طلبًا للنجدة، فهذا اللاصق قوي جدًّا، أنا لن أعاقبك بنفسي، الكتب هي ما ستنفذ فيك حكمها، لا... لا تخف، لن أُعدّ لك المقصلة الفرنسية التي أُعدّت لتشارلز ايفرموند(1)، لا ولن أفعل بك ما فعله القشتاليون بسليمة(2)، وبكل تأكيد، لن أفعل بك ما فعله آصف… بحسن(3)!


سأعذبك بما هو أشدّ وأنكى من كل ذلك...


أتعرف كيف كانت عقوبة سالم؟ لقد أحرقت له سيارته بعد أن أفسد كتابًا استعاره مني منذ عامين، وفوجئت به مرميًّا في الدكة الخلفية لسيارته تحرقه الشمس، حتى تموجت صفحاته وتيبّستْ، واصفرّت وكأن كائنًا ما تبول عليها، كان يجب أن يكون عقابه قاسيًا، فهو -على خلافك- يستعير دون دراية بأهمية ما يستعيره، يستعير ولا يقرأ، يستعير ليتباهى بالكتب كما يتباهى بسيارته التي لا تصلح الآن حتى خردة.


أما نعيم! الذي لم يكتفِ باستعارة كتبي الجديدة وتجرأ بسرقتها قبل أن أقرأها، بل تعمّد إحراق أحداثها أيضًا، أوه... بدأت أشعر بالصداع مجددًّا جراء تصرفه الأرعن، نعيم هذا وحدي أعرف دواءه، جلس قبلك بأسبوع على نفس هذا المقعد الخشبي المتهالك، اقتنيت لأجله أقوى وأفضل عشرة كتب من قائمته اللامتناهية لما ينوي قراءته، لا بُدّ وأنك خمنت ما فعلته به…


بالضبط هو ما خطر ببالك يا عزيزي، لقد أحرقتُ عليه أحداث الروايات العشرة… بالتفصيل.


أخبرته بأن الخالة بدرية لم تكن إلا شبحًا ظهر لعبد الرّزاق باحثةً له عن عروس، وبأن النحل الذي انتقم من وجه أستاذ رضا (الكاتب المشهور) لم يخرج إلا من جوف زوجته ريم (الكاتبة المغمورة)! أتصدق! هه، وبأن جنية البجع حققت أمنية تلك السيدة التي تريد البقاء مع زوجها في باريس للأبد وحولتهما إلى تمثالين، أما رئيف الذي قضى عمره لاهثًا بين الحسناوات موقعًا إياهن في شباكه وصناراته مرارًا وتكرارًا، فقد وُجد ميّتًا، مقتولًا بأشباحهن جميعًا، أولئك اللاتي كسر قلوبهنّ بقسوة عامدًا متعمدًا، تمامًا كما فعل بي نعيم(4)، أجل أخبرته بما حدث في الروايات العشرة التي كان يموت شوقًا لاقتنائها لولا غلائها أمام أزمة السيولة. 


أفسدتُ عليه متعة لا يمكنه الحصول عليها بعد ذلك اليوم. عرفتُ بعد يومين أنه يراجع طبيبًا نفسيًّا، يظنّ الأحمق أن بإمكانه غسل دماغه هه!


أما أنت يا عزيزي وليد…


أتعرف ما هي هذه التي بين يديّ؟ بالطبع... هذه روايات كلاسيكية من نوع آخر تكرهه، سأنزع عنك اللاصق ولا تتعب نفسك بالصراخ، فنحن في موقع لن يدركه فرخ الجن.


لا تملّ من القراءة فتسرق كتب أصدقائك أليس كذلك؟ إذًا ستقرأ هذه الروايات الستة من سلسلة روايات "كبير" حالًا، ودون توقف، أي محاولة مقاومة سينتج عنها تمزيق واحدة من صفحات كتبك النادرة، المُكدّسة في الصندوق أمامك، على الأرجح أنها مسروقة أيضًا، ولكني أدرك قيمتها عندك، أما صاحبها الأصلي فلا حرج منه ما دام لم يعاقبك كما تستحق.


هذه الصفحة الأولى من رواية "الجميلة الغاضبة"، انظر كيف اقتنيت لأجلك حاملة الكتب هذه كي تريحني من عناء إمساك الكتاب لك، ستكون مكافأتك بعد الانتهاء من هذه الأعداد الستة، لا تفزع فهي كما ترى بحجم الجيب! هيا ابدأ.


"أي إنسان يستطيع الهرب من قدره؟ ماريا ماتت والدتها وهي في الثامنة من عمرها. وفي الثامنة عشرة قتل والدها وشقيقها في حادث سيارة. فجأة أصبحت وحيدة، يتيمة ومنبوذة من أقاربها الذين استولوا على جميع الأملاك.


البيت الذي ترعرعت فيه طردت منه لتقف وجهًا لوجه أمام عاصفة الزمان..."


لماذا سكتّ؟! ما زال الوقت مبكرًا على الانهيار! أيرهقك الابتذال إلى هذا الحدّ؟! لِمَ إذن تسلك مسلكًا مبتذلًا ضعيفًا كسرقة الكتب؟ هيا واصل ما زال الليل طويلًا.


"لا أستطيع! لا أستطيع يا مُحسن... ارحمني أرجوك! سأمنحك مكتبتي كلها إضافة إلى كتبك! إلا عبير... إلا عبير!"


وهذه أولى صفحات كتابك "المنهل العذب"، كتاب نادر وقيّم أليس كذلك…


تبكي كالأطفال، هيا واصل قبل أن أتهوّر بتمزيق الصفحة الثانية!


"قالت فانيسا بصوت خفيض ولكن نافد الصبر:


"أوه، أماه (صوت مرتعش) ليس من السهل أن تلقي بها إلى الشارع، إنها لا تملك أي تدريب أو مؤهلات (يبتلع ريقه بصعوبة) وتعرفين مثلي أنها ضيّعت وقتها في المدرسة، ما الذي ستستطيع فعله على وجه الأرض؟ قالها بصوته الحنون وبدا أكثر وسامة وهو متأثر لأجلها، لطالما سُحِرتْ بحاجبيه الكثيفين، وعينيه العسليتين، وشعره الكثيف (نحيب)... ومنكبيه العريضين"


(نشيج يعلو ويتردد صداه في الحجرة الفارغة)


وهذه الصفحة الثانية من المنهل العذب ممزقة في ركن الغرفة... كان عليك أن تفكر جيدًا قبل أن تسرق كتبي، أو تستعيرها كما ادّعيْت.


---------------------

1. قصة مدينتين، لتشارلز ديكنز.

2. ثلاثية غرناطة، لرضوى عاشور.

3. عداء الطائرة الورقية، لخالد الحسيني.

4. من قصص قصيرة لكاتبة عربية لن أسميها أو أسمي الكتاب كي لا يُعدّ هذا حرقًا له.

5. كل ما ذُكر عن الروايات الثلاثة الأولى ليس فيه حرق بل هو جزء من الأحداث الأولية لها.


-----------------------

تدقيق | علياء بركة


تعليقات