العرّافة




 كان السبب تعلّقها الشديد بحفيدها الوحيد، من ابنتها الوحيدة.

هي إنسانة وحيدة تركها زوجها يومًا ما دون سابق إنذار وسافر بعيدا بعيدا، وهي واثقة -دون حاجتها لممارسة طقوسها- أنه عاد لبلده، عاد لزوجته التي تركها فيما مضى في السودان، كما فعل معها هي الآن، ربما يعود إليها هي أيضًا يوما ما، ولكنها لم تعد تبالي، فقد ملأ حفيدها “فارس” أيامها دهشة، وجدت نفسها تستكشف معه العالم من جديد، ولأجله دخلت عالم “العرافين”، وصار علم الغيب شغلها الشاغل..

ليس التبصر مهنة تعمل بها، لم تكن تبحث عن مستقبل جاراتها ولا حتى عن مستقبل ابنتها، رغم توتر علاقة هذه الأخيرة بزوجها، وكانت هي -الجدة- سبب هذا التوتر، فصهرها كان يسمع من ابنه حكايات الجدة، عن قراءتها لكفه الصغير، نعم كان يهمها مستقبل هذا الصغير فقط لا غير، وصل بها الحد أحيانا للتحايل عليه واجباره على شرب عدة فناجين قهوة مركزة كي تتطلع لبقايا خطوط ذلك الفنجان المقلوب، في محاولات للتلصص على ما ينتظر  فارسها المغوار، لكن لم يكن يظهر لها شيء..

كان صهرها “عادل” يتشاجر معها أسبوعيا على الأقل، بسبب رائحة “الحلتيت” الكريهة المركزة التي صادف وشمها عند عودته بزوجته وابنه مرة من عندها، أو بسبب فناجين القهوة التي كان “فارس” بفخر يعددها لوالده، أو بسبب حكاية البيضة التي قامت جدته بلفها فوق رأسه مرات عديدة وتمتمتها لكلمات غريبة تبدو غير متناسقة، ثم كسرها والتطلع للمنظر الذي يشكله صفار تلك البيضة! كي تتأكد أن حفيدها وقرة عينها غير مصاب بعين جارتها “مسعودة” الحسودة، التي تطالعها صباح كل يوم أثناء تبخير مدخل البيت وكنسه! ولكن تعلق فارس الشديد بها وعشقه كطفل فضولي لطقوس جدته الغريبة صعّب على عادل عملية حرمانها منه.

المرة الوحيدة التي استطاعت أن تلحظ شيئا مميزًا في فنجان فارسها الصغير كان منظر سرب طيور، حدثها خاطرها بأن أمام فارس رحلة سفر، ضايقتها الفكرة، حاولت إقناع نفسها بأن ما تراه -كالعادة- مجرد بقايا قهوة، إلا أن صوتًا ما في دماغها أكد لها أن قوى خفية قد ترفقت بها أخيرًا، ولا بد من أن تكون هذه القطرة هي التي تسبق الغيث، باتت ليلتها تلك وهي ترتجف كلما تذكرت بأنها على وشك الاتصال بعالم الشياطين، أو عالم الجن، أو أيًّا كانت تلك المخلوقات الغيبية المحيطة بنا من كل حدب وصوب؛ ولكن ما قضّ مضجعها، هو الوجه الآخر لهذه الفكرة التي أرادت تصديقها، أن فارسا سيسافر، لم تنم إلا بعد أن واست نفسها، بأنها ربما ستكون رفيقته في سفره، لن تسمح لهم بالسفر بدونها!

بعد ثلاثة أيام، بدأ فارس يشكو من انتفاخ صلب في رقبته، أسفل أذنه تماما، ظنوا بداية أنها الغدة اللمفاوية، إلا أن الأحداث تسارعت خلال يومين اثنين، وفجأة أصبح “الورم السرطاني” أمرًا واقعًا، واقع غير قابل للتصديق، فوق قدرتها وقدرة أبويه على التصديق والاحتمال.

تدبروا أمرهم، وبعلاقات الصهر الذي يحترق قلبه على ابنه، استطاعوا تدبير رحلة علاج خلال عشرة أيام فقط، ورحل “فارسها” بدونها، لم يستخرجوا لها جواز سفر أزرق معهم، عمدًا أو دون عمد، هي لا تدري ولا يهمها حقًّا ما تخفي سرائرهم بقدر ما يهمها ما سيحدث في مستقبل هذا الفارس الصغير، حاولت التواصل مع عالم الغيب، حاولت التواصل مع عالم الجن، كان دخولها الأول للانترنت مستعينة ببضع أساسيات تعلمتها من ابنتها لأجل اكتشاف طرق تحضير جلسة مع الجان، ورغم النصائح التي قرأتها بعدم الانفراد أثناء هذه العملية، إلا أنها لم تُبالِ، لم تفكر للحظة في قيمة ما تفعله، وما إذا كانت تستطيع تغيير مستقبل فارسها إذا ما اتضح لها أن لا مستقبل لديه بعد الآن!

امتلأ بيتها بأدواتٍ غريبة، أغطية قناني، ألواح بيضاء مختلفة الأحجام والمقاسات، أقلام مختلفة الألوان والأحجام، شموع -أيضا- مختلفة الألوان والأحجام، سجلت أوراد وأذكار في وريقات وداومت على تلاوتها آناء الليل وأطراف النهار، قامت بكل خطوة قرأت عنها بالحرف الواحد، بدقة وحرص، لم يرف لها جفن، لم تخف أو تخشى شيئا، كانت في حالة هوس بما سيؤول إليه مصير فارس.

لم يظهر لها شيء على مدى أسبوع كامل، تعبتْ، أُرهِقتْ، بدأت تيأس من جدوى ما تقوم به، بدأت تسب وتشتم الإنترنت الكاذب، وعرافيه الكذابين، حاولت في اتصالها بابنتها أن تقنعها بجعل فارس يشرب فنجان قهوة خفية عن والده، وتصوير الفنجان بعد قلبه وإرسال الصورة لها عبر “الفايبر”، لكنها قوبلت بنبرة التفاجؤ والغضب من ابنتها الحبيبة، حاولت إقناعها بتصوير كفه فقد تعلمت خلال هذه الأيام حيل وطرق جديدة لقراءة الكف، لكن الإنترنت انقطع، أو ربما ابنتها هي من قطعت الاتصال!

لقد اهتمت بِعَدّ الأيام، وكانت دائما تربط بعض الأرقام المميزة كالثلاثة والسبعة والأربعين بأحداث مميزة، فلا تطمئن إلا بعد مرور الأربعين بسلام، إلا هذه المرة، فبعد أربعين ليلة من يوم رؤيتها لسرب الطيور في فنجان فارس رأت في منامها ابنتها الحبيبة، تنزل من درج الطائرة مترنحة تبكي، حجابها غير مربوط بإحكام، تبدو وكأنها عادت على عجل، وكأنها لم تخطط لهذه الرحلة، لم يكن هناك أحد في استقبالها، كانت تحمل حقيبة صغيرة، لم يكن معها لا فارس ولا زوجها!

استيقظت من نومها وهي موقنة بأنها شاهدت رؤيا للتو، وبأن هذه الرؤيا هي نتيجة جهدها ومثابرتها، وقد قرر الغيب أخيرًا أن يرأف بحالها ويريها بعضًا من وجهه، وجهه القبيح للأسف، سيموت فارسها، هكذا فسّرتْ رؤياها، نعم ليس هناك تأويل آخر للأمر، دخلت في حالة من الهلوسة، لم تعد ابنتها ترد عليها، لم تعرف ما عليها فعله، واكتشفت فجأة بأن كل ما قامت به لن يفيدها الآن، في هذه اللحظة، فلا هي بقادرة على إنقاذ فارسها من مصيره، ولا هي بقادرة على تخفيف وطأة هذه المصيبة على نفسها البائسة، ولكن مهلا، سكنت فجأة بعد دورانها طيلة الصباح حول شقتها، واكتشفت طريقة تسكن بها وجع فقدان فارس، ودون تردد انطلقت لتنفيذها.

في صباح ثالث يوم من تلك الرؤيا، اكتُشِفَتْ جثتها، متيبسة، مقطوعة الأوردة، ملقية على بلاط المطبخ الذي تحول لون الدم فيه إلى الأسود الغامق، كانت “مسعودة” التي قلقت على جارتها قد قررت إنباء الجيران بعد أن غابت عنها أربع صباحات متتالية، وهذا ما لم يحدث طيلة ثلاثة عقود من جيرتهما.

اضطُرت ابنتها الوحيدة للعودة لأرض الوطن، بعد أن تم تبليغها بانتحار والدتها، تركت في تلك المدينة الباردة فارس وهو في حال تحسن ملحوظ مع والده، وعادت حزينة لأجل والدتها، خجلة منها، خجلة بسببها، نزلت من درج الطائرة مترنحة تبكي، حجابها غير مربوط بإحكام، فقد كانت عائدة على عجل، ولم تخطط لهذه الرحلة، ولم يكن معها لا فارس ولا زوجها!


تعليقات