احتضن مولود صديقتي الأول، الذي كان من الممكن أن يكون لي أنا!
كان من الممكن أن أكون أنا الراقدة على السرير الآن وهي مكاني؛ الممرضة التي تعتني بطفلي في الحضانة.
وبدلا من انتهاز فرصة للانتقام، أبارك لها وأعمل في مناوبة ليست لي، لأجل هذا الطفل، الذي أرادني والده يومًا ما أمه لولا تدخل الأقدار، أو بالأحرى لولا خذلان صديقتي.
لن أنسى صدمتي في حفل زفافها عندما جلستُ على طاولة واحدة مع أخت العريس، خالد..
كانت تعلم أني الصديقة الحميمة للعروس، وهي كانت الصديقة الحميمة لشقيقها، لم يكن يدس عنها شيئا، سألتني: متى سيتم تحديد موعد زفافك يا أسماء؟ كي نفرح بك أنت أيضًا
استغربتُ سؤالها في ذلك الحين وأجبتها ضاحكة، رافعة ظهر يدي اليمنى إلى ناظرها: هل ترين خاتمًا في بنصري؟ دعيني أجد العريس أولا ثم نحدد موعد الزفاف.
بان على وجهها الاستغراب، وقالت لي أنها ظنت بأني مرتبطة بشخص ما وإن لم نقم بخطوبة رسمية، أكدْتُ لها أن هذا لم يحدث، لستُ مرتبطة لا عاطفيا ولا اجتماعيا بأي رجل، لن أنسى تلك النظرة في عينيها.
سألتها: ما الذي جعلك تعتقدين ذلك؟ وبعد أن أكملت سؤالي شعرت بأني أعلم الإجابة سلفًا، وأكدتْ لي ابتسامة الاعتذار على شفتيها ما فكرتُ به، أجابتْني وكنت قد أدركت ما ستنطق به: “صديقتك.. فاطمة.. العروس.. هي من أخبرت خالد بأنك مرتبطة عندما سأل عنك في المستشفى، في ولادتي بميار ابنتي البكر العام الماضي”… ثم أردفتْ بعد أن أشاحت بعينيها عني إلى صحن الحلويات أمامها: “لقد فكر فيك قبلها”.
هل من الذوق أن تخبرني بهذا في عرسهما؟ هل يجوز ذلك؟ لم أعرف كيف أفكر ليلتها، تمنيت لو لم أعلم، وانتابني شعور بأنها ندمت على قولها إذ أعقبت اعترافها بعضة على شفتها السفلى، طلبتْ مني أن ننسى الحوار الذي جرى بيننا وكأنه لم يكن! هذا أفضل للجميع.
وسعادتي بعرس صديقتي انقلبت إلى غمّ، بكيت كثيرًا بقية الحفل، وظن الجميع أني أبكي خوفا من فقدان صديقتي، حتى هي ظنت هذا، نادتني وعندما اقتربتُ منها سمعتها تقول لي: لا تخافي يا غبية، لن يتغير شيء بيننا… ازدادت نوبة بكائي.. وقلت لها في نفسي: بل تغير كل شيء يا عزيزتي.
شكرا للموسيقى الصاخبة أن سمحت لي بالبكاء دون أن يسمع أحد نشاز نحيبي، وشكرا لكل أهلها وصديقاتنا الممرضات والطبيبات في المستشفى اللاتي اعتقدن أنني أبكي فراق صديقتي، التي ستغادرني إلى حياة مليئة بالمسؤوليات، فقد أراحوني من عناء شرح سبب بكائي.. وحدها سمية، شقيقة خالد كانت تعلم السبب.
تمنيت لو قاطعتني فاطمة كما تفعل الكثيرات لصديقاتهن بعد الزواج، ارتحت قليلا إذ توقفتْ عن العمل وصارت ربة بيت مثالية، ولكنها لم تتوقف عن زيارتي ولم تتوقف عن الاتصال بي، ولم أستطع كذلك منع نفسي طيلة عام مضى من التفكير في الحجة التي بررتْ له بها بقائي دون زواج حتى بعد مرور سنتين من رؤيته لي وسؤاله عني؟
احتضن بين ذراعي طفلهما الأول، الطفل الذي كنت قد تخيلت نفسي أخنقه، تخيلت نفسي ألوي له ساقا أو ذراعا ثم أتحجج بأنه خرج هكذا من بطن أمه؛ كي أحرق قلبها، الطفل الذي كنت قد عزمت على منعها من إرضاعه أو احتضانه فترة بقائها في المستشفى، وسيكون ذلك من دواعي سروري إن كانت ولادتها قيسرية –وهذا ما حدث-، سأجعلها تتلهف للإمساك به وسأمنعها متحججة بخوفي من زحمة الزوار وانتقال عدوى مرض ما إليه وهو لم يأخذ جرعة التطعيم الأولى بعد، تخيلت أمورًا عدة، كثير منها علمت أني لن أنفذه ولكني عقدت العزم على أمور أخرى لئيمة، لم تصدر مني ولو لمرة واحدة في حياتي، ولكن لا بد لكل شيء من مرة أولى أليس كذلك؟ هي لم تترك لي مجالا آخر لرد الاعتبار، ولكن ما لم أتخيله أبدا هو أني سأعشق هذا الطفل، وسأشعر بالذنب تجاهه بسبب كل تلك الأفكار الشريرة المتعلقة به.
منذ حملها وهي تصر علي أن أتواجد يوم ولادتها وإن لم يكن موعدها هو موعد مناوبتي في حضانة المستشفى، أخبرتني بأنها لا تثق بغيري من بين مجموعتنا التي عملنا معا سوية لسنوات، وأتساءل الآن، كيف تملك القدرة على النطق بكلمة ثقة؟ كان الأجدر بإنسانة مثلها ألا تثق بأحد، خاصة من خانتهم هي نفسها.. كثيرا ما شككت في ما أخبرتني به سمية ليلة الزفاف، ولكن الأيام والمواقف أثبتت أنها ليست من ذلك النوع، كما أن وجود خالد المموه في حياتي أكد لي الأمر.
كان خالد يتصرف معي أمامها وكأني لا أعرف شيئا عن النوايا المخبأة في الماضي، يضيفني كصديقة على الفيسبوك باعتباري صديقة زوجته الحميمة، وهي لا تمانع، يعلق على منشوراتي، يمازحني ويناقشني على الملأ، وهي لا تمانع، ثم يراسلني بين الحين والآخر على الخاص، بأسلوب آخر، أسلوب هادئ وشاعري، او هكذا تخيلته، يدعو لي دوما “ربي يحفظك” في نهاية كل حديث تافه، يتعامل معي على الخاص وكأنه يعلم بأني عرفت بنوايا الماضي، وخذلانه.. ويحاول أن يعوض ما فاته، أو يحاول أن يعيد الزمن إلى الوراء.. أتعلم صديقتي بأنه يحادثني محادثات قصيرة على الخاص؟ هل ستمانع الأمر؟ هذا ما لم أعلمه، ولم أرغب في ذلك، فالخذلان بالخذلان والبادي أظلم…
لم تكن فاطمة تتردد في وضع صور هداياه لها في ذكرى ميلادها أو زواجهما الأول أو حتى بدون مناسبة، وكان هو يعقب صورها بحديث مفتعل على الخاص، يحاول أن يقحم فيه موضوع الصور التي نشرتها فاطمة، يخبرني بأنها تحب الهدايا، وأنها تلمح له دوما بذلك، وبأنه خاف إن لم يأت لها بالهدايا أن تقلب له البيت نكد! وكان يؤكد لي بأنها نكدية ويسألني أن أنصحها بأن تخفف من العيار قليلا! كان يعلم أني لا أخبرها بمحادثاتنا، وربما يكون هذا ما شجعه على البوح بعيوبها ونقائصها والتي كان يبالغ فيها بحسب ما خبرته من صديقتي على مدى سبع سنوات من صداقتنا.
لم أشعر يوما خلال عام منصرم بأني أخونها، لم أشعر بالذنب، فقد اعتبرت ما يحدث نتيجة طبيعية لفعل غير طبيعي قامت به تجاهي أنا وخالد.. إلا هذا اليوم، ومع وجود هذا الكائن الصغير الرائع.
هل أحببت خالد؟ قطعا لا، أؤكد ذلك ولا أشك في الأمر، لم تتح لي الفرصة من الاساس كي أحبه، ولكن رغبتي في تحقيق العدالة الإلهية، وشفقتي على هذا الرجل المخدوع الذي استطاعت فتاة كفاطمة استدراجه للزواج منها، جعلاني أنساب مع تياره، أحن عليه، استمع لمحادثاته القصيرة الهادئة المليئة بالتلميحات المحببة، ولكن لا أبادله إياها، لم أقدر على فعل ذلك رغم أني حاولت رغبة في الانتقام، ولا أعلم السبب.
ولكني في هذه اللحظات، بينما أحمل طفلها ذاهبة به إليهما في غرفتها، أفكر مليا في فكرة الانتقام من الأساس، لماذا احتجزت نفسي فيها؟ ألهذه الدرجة فقدت تقديري لذاتي؟ كيف استطعت أن أضيع عاما كاملا من عمري في ضغينة أحملها تجاه صديقتي؟ لقد ضرني التفكير في الانتقام وحدي ولم يمسها بطرف!
أنا أدرك اليوم جيدا بعد أن عرفت خالد من انعكاس صورته على حياة فاطمة أنه ليس من النوع الذي أتمنى أن يشاركني حياتي، فهو لا يترك لها فسحة من الحرية، بدءا من إيقافها عن العمل وانتهاء بالتحكم في هيأتها ولباسها، لم يكن ليجدني كفاطمة، فهي من النوع المطيع، الذي يتجنب الشجار، لديها سعة من البال وصبر لا أملكهما، خالد أبدا ليس من نوعي، ولو تركت له فاطمة المجال للتعرف عليّ لكنت على الأرجح رفضته في نهاية المطاف، وتركته لها، فقط لو صبرت فاطمة قليلا وتصرفت بشرف وصدق، لما كانت خسرتني… أو ربما كنا سنخسر بعضنا في نهاية المطاف بسبب رفضي له وقبولها هي، خالد في كل الأحوال سيكون السبب في نهاية صداقتنا.
أحمل إليهما جوهرتهما الثمينة، والسعادة تقفز على وجهيهما، تمسك فاطمة بابنها وتسألنا: من يشبه يا ترى؟ يجيب خالد وكأنه كان ينتظر السؤال ناقلا بصره بين وجه ابنه ووجهي: “يشبه أسماء، هل توحمتي عليها؟”، ملاحظته لم ترق لفاطمة، ولكنها ابتسمَتْ ابتسامة المسايرة التي أعرفها جيدا، وبدل انتهاز الفرصة الجديدة للتشفي منها، قلت مداعبة: “إن كان يشبهني فهذا لحسن حظه!” ، رد خالد سريعا :”طبعا”، وبدل تكحيلها، أعميتها.
يستأذن خالد، تحاول فاطمة إرضاع الطفل، أساعدها، ثم بعد أن تيأس تطلب مني بنفاذ صبر حمله إلى الحضانة خوفا عليه من زحمة الزوار! أليس هذا ما كنت أنوي التحجج به لأحرمها وجود طفلها بقربها؟ فشلت الخطة!
آخذه وأخرج به، خالد ينتظر في الخارج، يرافقني حتى الحضانة، وقبل أن أدخل إليها لأضع الصغير، أسمع بضع كلمات يقولها أبوه، لم تأت في وقتها: “أنتِ تعلمين أنه كان من المفترض أن يكون ابنك لا ابنها أليس كذلك؟”، يا لجرأته! يا لوقاحته! لماذا أحقد على صديقتي؟ لأجل هذا الرجل الذي يفكر في أخرى يوم ولادة طفله الأول؟ أجيبه: “كل شيء نصيب.”
نعم، الزواج، والأمومة، الأرزاق، والصحة… والصداقة أيضًا، كل شيء نصيب.
خالد ليس له في قلبي نصيب، أبدا وبأي شكل لم يكن ليناله أي نصيب، وصداقة فاطمة أيضًا لم يعد لها نصيب أكثر من هذا في حياتي.
أقرر أن اليوم سيكون الحلقة الأخيرة في مسلسل الصداقة منتهية الصلاحية، والحب المستحيل، سأتخلى عن فكرة الانتقام والتشفي وأحرر نفسي.
واكتشف اليوم، وفي هذه اللحظة، أن ما آلمني حقا هو فقداني لصديقتي، أردت معاقبتها لأنها أجبرتني على التخلي عنها، لم تكن رغبتي في الانتقام تحسرا على فقدان عريس محتمل، خاصة إن كان هذا العريس هو خالد لا غير.. فخسارة صديقة أشد قسوة ومرارة من خسارة رجل، حتى إن كان كلاهما لا يستحق.
تعليقات
إرسال تعليق