حيّ القطط السّمان



نصحتني أمي وأخواتي الأربعة ألا أقترب من حي القطط السِّمان، فبالرغم من ضخامة قمامتهم وثرائها، إلا أن البشر في تلك الضاحية لا يسمحون للقطط أو الكلاب المشردة بالاقتراب من أبوابهم، فيضعون قمامتهم في براميل كبيرة، تأتي الشاحنة كل فجر لتفريغها، ربما معهم حق في طرد الكلاب؛ فهم مزعجون وقذرون! ولكن لماذا يطردوننا وهم يمتلكون قططًا مثلنا في بيوتهم؟


تقول أمي إن قططهم تنتمي لسلالات عريقة، نظيفة ومدللة، لا تأكل إلا الطعام المعلب أو المطهوّ، وتقول إن والدي كان أحدها، ولكنه رحل عنهم وَلعًا بها، ثم لم يحتمل حياة أمي في الحي الفقير، حيث تفرغ القمامات من اللحوم، وفراؤه الناعم لم يتحمّل حشرات الحي التي اعتدنا عليها؛ فمات مصابًا بالجرب... نجد أحيانًا بقايا بيض نتشاجر عليها، ومرة واحدة منذ ولدت عثرتُ على بقايا سمك، بسببه خسرتُ إحدى عينيّ في شجار مع كبير القطط في حيّنا، لوقاحته ظنّ أنه من السهولة بمكان انتزاع لقمة قط جائع لمجرد كوني أصغر منه، وأنحف منه، وأمي قطة لا قط لها!


منذ يومين، تعرّض سكان حينا لنزوح بسبب حرب من حروب هؤلاء البشر التي لا ترحم، كم هم جبناء؛ يتقاذفون بالنيران بدل المواجهة المباشرة! ينبغي عليهم تعلّم أصول الشجاعة والقتال منَّا نحن قطط الشوارع، فرغم حدة موائنا ومخالبنا التي ننشبها في بعضنا، إلا أن عراكنا لا يتعدى المتصارعين، لا يؤذي القطط الأخرى، لا يؤذي الشجر ولا حتى الحجر... المهم أننا جعنا أكثر إثر نزوح جيراننا البشر، ولم نعد نجد حتى بقايا "الرز" أو "الكسكسي" أو "المكرونة" رغم أننا لا نفضلها.


اجتمعنا، عشر قطط من فتوات الحي، وأنا على رأسهم، نتباحث حول الكيفية التي سنجد بها قوتنا، ليس بإمكاننا النزوح نحن أيضًا للأحياء المجاورة، ففيها أهلها وفتواتها من أبناء عمومتنا وأقاربنا الذين لا يرضينا منازعتهم في حصتهم، فضلًا عن أنها أحياء فقيرة أصلًا لا تختلف كثيرًا عن حينا!

قررنا على إثر هذا الاجتماع أن نُشكل فرقة مغاوير لدخول حي القطط السِّمان، مكوّنةً مني أنا "عبسي"، وصديقيّ "حويتة" و"بركة"، فيما تحرس بقية المجموعة عائلاتنا.


ما يُميز ذاك الحيّ وُسع الشارع، رصفه الجيد، وقلة حركة السيارات والمشاة فيه، والأهم هو أكياس قمامته السمينة كقططه! كذلك بُعده عن مراكز الاشتباكات، رغم أني سمعتُ أحد جيراننا قبل رحيله يقول إن سُكان هذا الحي هم المموّلون لهذه الحرب وسبب بلائهم! ألا ينبغي لهم من باب المروءة فقط أن يكونوا هم في وجه المدفع؟ أو أقله يجعلون الحرب في حيّهم ما داموا هم من أرادها! لن أفهم البشر مهما حاولت. 


قررنا، بعد فروغ المسجد من صلاة العشاء ستكون أولى غزواتنا، أقسمنا على الالتزام بالدستور الهرهوري؛ ألّا نبول على رصيف، أو نقطع نبتة، لن نتجسس على القطط السمينة ولن نتعارك معها مهما بلغ بهم استفزازنا، وألا نأخذ من أكياس القمامة إلا حاجتنا وحاجة عائلاتنا، سيملأ كل منّا بطنه أولًا كي يجد قوةً وجهدًا لحمل ما استطاع من غذاء بين فكيه لقطط حيّنا، ثم العودة مرارًا وتكرارًا حتى أذان الفجر.

 

لكن ما حدث لاحقًا، جعلني أقسم ألا أدوس أحياءً كهذه مجدّدًا، لم أعد بقائمة مكسورة كما خشيتْ أمي، ولكني عدتُ بقلب مكسور لا دواء له.


في الليلة الأولى، لم يكن دخول حيّ القطط السّمان صعبًا كما تصورنا، انطلق كلّ منّا إلى مدخل فيلّا، وكانت مفاجأتي أنّ أول قمامة نشبتُ فيها مخالبي بعد قلب دلوها احتوتْ على "العصبان"! كيف يجرؤون على رميه؟! ألا يأكله قطهم؟ أم أنهم لا يربّون واحدًا؟! بدأت بالتهام ما يُقيم أودي ويمنحني قوة كي أحمل ما أستطيع بعدها لأسرتي، قررت أن أترك لهم قطعة "كرشة" محشية ومُخاطة بدقة، ستحبها أمي وأخواتي.


بعد انتصاف الليل بقليل، كنت قد قطعت المسافة بين حينا وحي الأثرياء هذا أربع مرات، خلت الشوارع من المارة تمامًا، وبين الحين والآخر تمر سيارة مسرعة، يُمتّعها سائقها عند التقاطعين الواسعين في نهايتي الشارع، وحده بقينا حذرين منه، وجلين من أن ينتهي مصيرنا تحت عجلات سيارته، فهو كما بدا لنا يعاني خطبًا ما، عرفنا ذلك من ضحكته المجلجلة المتواصلة يطلقها للسكون المخيّم على الشارع.


أما في الليلة الثانية فقد اختلف الأمر، وبدا أن سكان الحي تآمروا علينا إثر عثورهم صباحًا على أكوام قماماتهم ملقاة على عتبات أبوابهم الفخمة، إذ لا يكاد أحدنا يهنأ بدلوه حتى يخرج له أحدهم بهراوة ضخمة، فرّ كلٌّ من "حويتة" و"بركة" على الفور، فيما حوصرتُ أنا ولم أجد أمامي إلا سور البيت لتسلقه، لم يكن الأمر صعبًا بالنظر إلى ديكور ذلك السور والأشجار المتداخلة معه على طوله حتى شرفة المنزل، جلستُ ساكنًا أتحين فرصةً مناسبة للهرب، ليت الكهرباء تنقطع عليهم في هذه اللحظة كما تفعل دومًا في حينا، رأيته يعود إلى البيت بعد يأسه من العثور عليّ، هدأ فروي وعاد إلى طبيعته بعد انتصاب، وحين هممتُ بالفرار سمعت مواءً ناعمًا يأتي من الشرفة، خالفتُ تحذيرات أمي، أهو الفضول ما دعاني لاكتشاف صاحبة هذا المواء الساحر؟ أم أنها بوادر الربيع بدأت تؤثر على قط شاب مثلي؟!


"أجائعٌ أنت؟"

في الحقيقة نسيت جوعي حين رأيتها، مكتنزة بفرو أبيض ناصعٍ منفوش!


"أتعجز عن المواء؟!"

التفتُّ متظاهرًا بلا مبالاتي، لا ينبغي لي الاستهانة بشرف قطط الشوارع وترك قطة مدللة يثقلها وزنها أن تجعل منه مداسًا تحت مخالبها. أتراها تشفق عليّ؟ بالطبع! لا بد أنها لاحظت نحافتي وفقداني إحدى عينيّ...


"انتظر ساعة أخرى؛ سينام صاحب البيت... بإمكانك بعدها الحصول على ما شئت، فعشاؤنا كان سمكًا مشويًّا، تستقر رؤسه وعظامه الآن في أعلى هرم الكيس!"

"تبًّا لكِ!"... تبًّا لي! كيف سمحتُ لنفسي بالتفوه بهذا المواء القاسي!

صدمها ردّي.. لم تردّ، بدأت تغريني بلعقها أطرافها، لمَ ما زلتُ واقفًا؟ لم أفهم!

"لستُ بشريّة يا هذا! وأنا هنا أحاول مساعدتك لا السخرية منك، فنحن في النهاية أبناء عمومة!"، ثم التفتتْ عائدة إلى باب الشرفة الموارب.

"لسنا كذلك.. فأنت تنتمين إلى إحدى هذه السلالات النقية... و..." ولماذا أُصرّ على ارتكاب الحماقات؟! قررتُ الاستسلام لفكرة إعجابي بها، رغم الفارق الطبقي بيننا، واتبعتُ حيلة حويتة في جذب القطط السمينة التي تستهوينا:

"و... أهذا فروك المنفوش أم هو وزنك؟"

تغنّجتْ بجسدها مقبلة على ذروة الشرفة، أسبلتْ عينيها قليلًا في حركة لا تقوم بها إلا الخبيرات:

"اقترب واكتشف بنفسك"، تبًّا لك يا حويتة كم أنت بارع!

اقتربتُ منها، لعقتُ فروها، نسيتُ جوعي وشبعها، نسيتُ فصيلتي وفصيلتها، نسيتُ عيني المفقوءة التي خسرتْ فرصة التمتع بناظرها، نسيتُ حتى أسرتي الجائعة! وقبل التورّط أكثر، قررتُ التراجع، كيف للربيع أن يكون بهذه القوة؟!


"إلى أين؟"، سمعتُ في صوتها نبرة توسّلٍ لم أتوقعها.

"ما كان علينا الاقتراب..."، وقبل أن أتمكن من شرح الأمر، خرجتْ صاحبتها كما بدتْ لي، وحين لمحتني صارت تهش بيديها...

"امش.. امش.. لا تقترب منها أيها الأعور اللقيط؛ إياك أن تلوّث نسلها!"

لم أكمل حواري، التفتُّ عائدًا أدراجي نحو الشارع، فيما بدأت أسمع مجددًا صوت السيارة نفسها التي أخافتنا البارحة.


انطلقتُ ولم أدرك أنها خلفي تتبعني إلا حين سمعتُ صاحبتها تنادي عليها: "لوسي ارجعي! ارجعي أيتها المجنونة!".

كنت قد قطعتُ الشارع بينما وقفتْ هي على الضفة الأخرى ترجوني البقاء.

- "إن لم تبقَ فسألحق بك"

- "لن تتمكني من تحمل عيشتي، هل أكلتِ يومًا فأرًا نيئًا؟"

- "لا، ولكنّي متأكدة من لذته إن اصطدته أنت!"

- "لا تجربي قطع الشارع؛ لستِ معتادة على السرعة المناسبة لشوارع كهذه"

أنزلتْ قائمتيها الأماميتين من الرصيف، لمحتُ صاحب السيارة إياه قادمًا من بعيد.

- "لا تتقدمي..."

- "إنه بعيد"

- "لا، ليس كذلك، أنت بطيئة؛ ارجعي!"

وقبل أن أدرك صورتها مدهوسةً ملتصقًا نصفها بالإسفلت، سمعتُ صوت صاحبتها تصرخ، وسمعتُ جلبة بدأت تحدث عند الجيران استجابة لصراخ الثكلى.

رحلتُ مسرعًا وعينا "لوسي" بقيت شاخصتان في ذاكرتي، وسؤال يعذبني: أقتلتُها أنا؟ أم ترفها؟ أم الربيع؟


تعليقات