*نُشر على فاصلة، 2019
لطالما كان أصل الإنسان، خَلقه وتصنيفه، شغل علماء الإنثروبولوجيا(1)، وعلماء النفس والاجتماع، وعلماء الحيوان والبيولوجيا الشاغل، لعلَّ أشهر النظريات في هذا الشأن هي نظرية "تشارلز داروين" التي عرضها في كتابيه "أصل الأنواع"، يليه "نشأة الإنسان"(2)، ولكن ما الذي جدّ على هذه النظرية لكي يتحول الإنسان من مخلوق "أصله" قرد، إلى قرد بشكله الحالي؟
كغيرها من النظريات، تعرضتْ نظرية داروين لصعوبات واعتراضات نتيجة بعض الثغرات التي ظلَّت قيد الدراسة والتحليل، فيما اعتُبرتْ هذه الاعتراضات دليلاً لدحض النظرية واعتبارها مخالفة للمتعارف عليه في خلق الإنسان وفق الأديان السماوية.
بُنيتْ نظرية داروين على عدة قواعد لعلَّ أبرزها تلك القائلة بأنَّ "الأشكال الحية المتباينة عن بعضها بصورة تامة حاليًّا، قد انحدرت من شكل واحد"(3)؛ أي أصل واحد (وهذا المبدأ الذي اعتمدت عليه كل العلوم المتعلقة بالأجنّة وزراعة الأعضاء حتى زماننا هذا)، وبأنه في ظل تكاثر الكائنات الحية، وُجد صراع من أجل البقاء، وما يتطلبه من عناصر، كالمأوى والغذاء، هذا الصراع سماه داروين بالانتخاب الطبيعي، أو "البقاء للأصلح"، على اعتبار أنَّ الكائنات الحية -جميعها بما فيها الإنسان- لم تكن بالكيفية التي نراها اليوم وبأنها تطورت وفق البيئة التي فُرضتْ عليها عبر ملايين السنين، ممّا غيّر من شكلها ووظائف أعضائها، وذهب إلى أنَّ أصل الإنسان يعود إلى فصيلة من الحيوانات أشبه ما تكون بالقردة (غير المُذيّلة)، والتي تعود كلها لجدّ واحد، تحوّلت وفق مبدأ الانتخاب الطبيعي إلى الصورة الحالية؛ وبهذا يكون الإنسان -وفق داروين- وفي مرحلة ما من تطوره، ينتمي لصنف من أصناف القردة (الشمبانزي والغوريلا)، أي أنَّ الإنسان مرَّ بفترة اتّخذ فيها هيئة وسطية بين الإنسان والقرد، وسُمّيت هذه المرحلة بالإنسان-القرد.
المعضلة هنا أنَّ الإنسان-القرد مجرد فرضية، إذ لم يوجد له أثر حتى هذا اليوم. المعضلة الأخرى التي واجهتها الداروينية هي عدم تطور كل فصائل القرود الأخرى الأقرب للإنسان إلى مرحلة الإنسان، وبقيت هاتان المعضلتان بدون حل؛ ولكن بعد قرن من إعلان داروين، ظهر على الساحة كتاب "القرد العاري" لعالم الحيوان الإنجليزي "ديزموند موريس"، سادًا -ربما دون قصدٍ منه- الثغرة التي أرّقتْ الداروينيين طيلة تلك السنوات.
جاء "موريس" بكتابه الذي يقول فيه بأنَّ الإنسان لم يكن أصله قرد، بل هو قرد ينتمي لقبيلة القردة والسعادين والغوريلات، إلاَّ أنَّ تطوره شمل فقدانه للشعر الكثيف الذي يغطّيه، وبهذا قرّر أن يميزه عن بقية "أقربائه" فسمّاه؛ "القرد العاري"، وعنون هذا اللقب بكتابه الذي يقول في مقدمته:
"تضمُّ فصيلة القردة 193 نوعًا، يكسو أجسادها فرو كثيف الشعر، إلاَّ نوعًا واحدًا فقط من هذه ال193 نوعًا، جسده عارٍ من الفراء، والاسم العلميّ التقني لهذا النوع من القردة هو "هوموسابيين"، أمّا اسمه الاجتماعي فهو الإنسان!
وهذا النوع من فصيلة القردة طريف جدًا، ليس لخلوّ جسده من الفراء فحسب؛ وإنما لأنه يقضي معظم وقته في مراقبة سلوك بقية أقربائه القردة... ويسميها عادةً بالحيوانات كما لو كان كائنًا مختلفًا عنها مستقلَّ المنشأ!
ولعلَّ أطرف ما فيه أنه يباهي بدماغه، مفاخرًا بأنه أضخم دماغ بين الكائنات الحية، بينما يتجاهل ويتستّر على حقيقة أخرى يعرفها جيدًا؛ وهي أنه صاحب أضخم "عضو إنجاب" بين مختلف القردة في فصيلته، وإن كان يحاول إسباغ هذا الشرف على أولاد عمه "الغوريلات"(4)
استقى موريس معلوماته من عدة مصادر رئيسية (أفرد لها فصلين كاملين في كتابه المكون من عشرة فصول، وتم حذف هذين الفصلين في النسخة المترجمة)، ولعلَّ أهم مصادر بياناته كانت الملاحظة المباشرة لسلوكيات حيوية شائعة بين جميع "القردة العارية" (البشر وفق موريس) ذات الثقافة المعاصرة، ومقارنتها بالملاحظات المباشرة للسلوكيات الحيوية الشائعة للقردة.
قسّم ملاحظاته وبراهينه على ثمانية فصول، وفق النشاط أو السلوك؛ الأصول، الاتصال الجنسي، التربية، الاستكشاف، القتال، السعي للغذاء، العناية بالذات، ونشاطه تجاه الحيوانات "الأخرى".
وإن كان داروين تحدث عن أصل الإنسان وقوبل هو ومن تبنّى نظريته بالرفض والتكفير (رغم وجود بعض الأصوات الدينية –الإسلامية تحديدًا- الموافقة له، والتي وجدتْ تأويلاً للقرآن يتوافق مع النظرية ولها رأي لا يستهان به في هذا الشأن)(5)، فإنَّ موريس لا يقول بتحولك إلى إنسان، بل يخبرك أنك كنت، وما زلت، قردًا، وبأنك ببساطة –أنت- هو الحلقة المفقودة في نظرية داروين لنشأة الإنسان؛ أنت الإنسان-القرد! مهما كان منصبك، مهما كانت درجة ثقافتك ووعيك، فإنَّ هذا جزءٌ لا يتجزأ من نشاطك الحيوي الاعتيادي.
عزيزي القارئ؛ وبعد:
لسنا هنا بصدد برهنة أو تفنيد النظرية الداروينية أو الاستنتاج الموريسي، لا علميًّا، ولا دينيًّا.
ولكن، إن كنت ممن استفزتهم نظرية داروين لأنها تلصقك بمخلوقات تحتقرها، فإنَّ النتيجة التي توصّل إليها موريس بالتأكيد ستُشعل الحرائق في خلايا دماغك الذي ميزك الله به عن سائر المخلوقات، دماغك تحديدًا -وفق إيمانك- هو ما جعلك دونًا عنها تعتبر نفسك أعلاها شأنًا ومنزلةً، وترى في نظريات كهذه اعتراضًا على خلق الله الذي يقول في كتابه العزيز: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا"(6)، وقوله تعالى: "لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ"(7).
وبعيدًا عن الخوض في نوايا العلماء والتي أؤمن أنها لا تتعدَّى كونها فضولًا علميًّا بحتًا لم يكن الهدف منه –ولن يكون- تدمير إيمان الإنسان بخلقه وغيره من الكائنات الحية، فإني أرى أنَّ دراسة موريس تجاهلت الجانب الروحاني الذي يسمو إليه البشر منذ نشأة الحضارات، فهل بحْثُ الإنسان منذ اتضحتْ بوادر وعيه وابتكاره، عن إله يعبده، يعتبر نشاطًا حيويًا تشاركه فيه الحيوانات؟
هذا ما لم أعثر على إجابته بعد، وهذا تحديدًا ما سيميزك عن القردة، وسيجعلك بثقة تضع إصبعك في عين موريس وتخبره بأنك "إنسان" لا قرد، لأنَّ الله تعالى لم يكرمنا فقط بالعقل الذي يبحث في العلوم وأسرار الحياة، لم يكرمنا فقط بقدرتنا على استخدام أيدينا وأقدامنا بكيفية نتميز بها عن بقية القردة، بل كرّمنا بما هو أعلى شأنًا من الخلق المادي؛ إذ منحَنا القدرة على اقتران تميزنا العقلي والجسدي بالروحانية العُليا، الكفيلة -وحدها- بالرقي ببني جنسنا. يقول تعالى: "لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ"(8)، ضع تحت "يفقهون" و"يبصرون" و"يسمعون" مائة خط إن شئت، وفكّر بها جيدًا.
والآن أجب عن السؤال التالي: إنسان أنت أم قرد؟
-----------
هوامش:
1. الإنثروبولوجيا هي علم دراسة الأجناس البشرية بين الماضي والحاضر.
2. كتاب "أصل الأنواع" لتشارلز داروين، صدر أول مرة في نوفمبر 1859م، وصدر له "نشأة الإنسان" أول مرة في 1871م.
3. "أصل الأنواع"، تأليف: تشارلز داروين، ترجمة: مجدي محمود المليجي، الطبعة الأولى 2004، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة.
4. الترجمة المنقولة عن مقال "ديسموند موريس: القرد العاري" لغادة السمان، من كتاب "مواطنة متلبسة بالقراءة"، الطبعة الرابعة 1992، منشورات غادة السمان، بيروت، فضلتها عن الترجمة العربية للكتاب، لمراعاتها تجنب التسميات الجنسية الفاضحة، للقارئ العربي العاديّ.
5. مثال على ذلك: https://bit.ly/2mucchu
6. سورة الإسراء، الآية 70.
7. سورة التين، الآية 4.
8. سورة الأعراف، الآية 179.
--------
مصادر:
-"أصل الأنواع"، تشارلز داروين >>
-"نشأة الإنسان"، تشارلز داروين >>
-"القرد العاري"، ديزموند موريس >>
https://bit.ly/2kth9q3
تعليقات
إرسال تعليق