*نُشرت على فاصلة، 2020، ضمن حملة "مش ناقصة" للتوعية بأخطار الجائحة وكيفية مواجهتها.
كان عليّ الاختيار بين الموت من الكورونا، أو الموت جوعًا! أعمل باليوميّة، سبّاك محسود من موظفي الدولة الذين أسلّك لهم مجاريهم، وأركّب لهم أطقم حماماتهم ومطابخهم، محسود في زمن الرخاء، منسيّ في وقت الشدة… من أين خرج لي هذا الفيروس اللعين وأوقف حالي؟! أستغفر الله! أين رضاك يا عبد العال؟ أين صبرك؟ ولكن... أنّى لي الصبر على أفواه صغاري الأربعة الجياع؟! أنّى لي الصبر وأصوات بطوننا الفارغة لا يُخرسها إلا الصوت العالي جدًّا للتلفاز، يصدح عاليًا عمدًا في محاولات حثيثة لتجاهل أصوات البكاء والتذمر وزقزقة البطون!
"خبزة وزيت.. خبزة وزيت.. خلاص يا ماما عيينا!"، تنظر نحوي باعتباري المسؤول، تحاول أن تصرفهم عنها، تكاد تنطق وتقول: "هذا بوكم، زنّوا فوق راسه وخلّوني!". غارت الوجنات عميقًا، وجحظت العيون، خمسة أيام لا نجد إلا "العيش" المكدس سابقًا في المجمد شبه الفارغ، وبقايا زيت زيتون مُعتق لم يعد صالحًا للأكل، بعد أسبوعين من توقفي عن العمل، لم يعد يطلبني أحد من زبائني أو مَن مِن طرفهم، ماذا حلّ بتوصيلاتهم الصحية؟! كيف لم تعد تشكو عطبًا ما؟! هل علّمهم الحجر المنزلي حرفتي يا ترى؟! نزلتُ منذ يومين من العمارة التي أسكنها بلافتة مكتوب عليها "سمكري" مع رقم هاتفي، وقفت عند ناصية الشارع حتى حانت ساعة حظر التجول وطُردتُ من الشارع إلى منزلي، كرهتُ بيتي بسبب عجزي أمام أسرتي، وقفتي تحت سياط الشمس تلك الساعات أرحم عليّ من سياط نظرات أطفالي المتطلعة ليديّ الفارغتين حين عودتي.
كانت تلك محاولتي الأخيرة، لمحني يومها حال عودتي جاري الذي يسكن في الشقة المقابلة بينما كان يمسح درابزين العمارة بما بدا لي قنينة كحول بحجم أكبر من المعتاد، أضعاف حجم العبوّة التي توسّلت الطبيب في الصيدلية منحي إياها دَيْنًا ريثما أتحصل على يومية جديدة ورفض. وبخني جاري "الوسواس" عند سُلم العمارة لعدم التزامي بالحجر المنزلي، عزة نفسي أبتْ أن أشرح له سبب خروجي... ولم أردّ.
كيف لم يخطر على أيّ من جيراني عجزي عن إطعام أطفالي؟ جيراني الذين كانوا يحسدونني على يوميتي نسوا اليوم ألا يومية لي. ألم يتساءلوا عنا نحن النازحين منذ أشهر قليلة تاركين خلفنا بيتًا مهدومًا؟ أم أنهم يتصوّرون بأني أدخر الآلاف من عملي، وأن هذه الآلاف لا تنتهي! ألم يخطر ببالهم أن نصف ما أجنيه يذهب في إيجار الشقة، والنصف الآخر بين احتياجات الأطفال وإطعامنا؟!
رنّ هاتفي، اسم جاري المقابل لشقتي، "صلاح الوسواس" يظهر على الشاشة، يا الله! أتراه شعر بمأساتي أخيرًا! أتراك يا الله قذفتني في قلبه؟!
"أهلين صلوحة شن الجو؟"
- "عبد العال! شن حالك يا راجل؟ معاش ريتك طالع، طيب فيك اللي سمعت الكلام. خفت من الكورونا توة والا؟!"
إني أخاف الجوع، لا أجرؤ على قولها، في انتظاره كي يعرض عليّ المساعدة سألته مستعجلًا:
- "اتفضل يا صلاح، أؤمر؟"
- "لا والله غير السرفنتينا عندي تبي تسليكة بسيطة و…"
بسيطة هذه تعني الإحراج، بسيطة هذه تعني أنه يريدني أن أقدم له الخدمة دون مقابل. بسيطة هذه تعني طمعًا وأنانية لا حدود لهما!
لم أصغ جيدًا لقصة "سرفنتيناه"، سمعتُه فقط يقول:
- "ألو.. ألو.. تسمع فيا عبد العال ولا التغطية هربت؟!"
لا أدري كيف بدأت بالنطق بينما كنت أبلع ريقي، غصصتُ فانتابتني نوبة سعال، ساد الصمت قليلًا بعد أن استعدتُ صوتي وشهيقي.
- "ألو.. صلاح.. أنت على الخط؟"
بعد هنيهة سمعتهُ يسألني بتردد وحذر: "خيرك؟ إن شاء الله لا باس؟!". لا أدري ما الذي لمع تحديدًا في رأسي لحظتها، ولا أدري أهو الحدس من نتائج ما أنا مقدم عليه، أم أني لمجرد التسلية وربما بعض الانتقام من خذلانه، أجبته: "لا ولا حاجة، شوية كحة أني والصغار، على شوية حرارة... على شوية تعب... مش عارف لو نقدر انسلّكلك السرفنتينا والا لا، لكن حنحاول، جايك فورًا يا جاري"، وابتسمتُ وأنا أسمعه يجيبني بصوت عالٍ سمعتُه عبر الباب لا فقط عبر الهاتف: "لا! خليك مرتاح يا راجل والله ما صارت حلفتلك عاد! اقعد ارتاح وما تطلعش سمعتني؟ ما تطلعش بكل حتى للجيران وتوا نقوللهم إنك محتاج راحة. كان حد كلمك قولّي أنت بس!".
"ياريت يا صلاح بالله ياريت! لكن زي ما تعرف نخدم باليومية، ومضطر نشتغل حتى وأني في الحالة هادي؛ منين بنوكل الصغار بس؟!". صمتٌ آخر… "ألو؟! صلاح تسمع فيا؟"، لم يجب إلا حين عزمت إغلاق الخط: "إيه إيه معاك. اسمع… توة أني نجيبلك سبيزتك كلها ونحطهالك قدام الباب، بعدين نديرلك رنة تلقاها"، تفلت منه ضحكة لبرهة وتظهر توتّره وقلقه، ويستطرد: "معليشي غير أنت عارف خوك راكبني الوسواس من يومي... لكن حاجتك عندي، ما تعتبش برا الحوش بكل!".
"لا يا راجل، ما تجيش! ما فيش داعي والله!"، دعوت الله أن يُصرّ على عرضه ففعل: "يا راجل الناس لبعضها! اللطف عاد كيف جاري من غير يوميته ونخليه؟! أفضالك سابقة يا عبد العال... غير قوللي، أمتى بدت معاكم الحالة بالضبط؟"، كنتُ طمّاعًا، أعترف، وأجبته: "أمس في الليل بس"، ونتيجة لذلك، تكدستْ المؤونة الغذائية أمام شقتي في اليوم التالي، معونة تكفينا شهرًا أو أكثر، من جاري هذا وآخرين، بعد أن شاع لهم خبر إصابتي وأسرتي بالوباء، اتصلوا بي محاولين إقناعي بالذهاب إلى المستشفى للفحص، ولكن مجرد ذكر حال المستشفيات وواقعها كان كفيلًا بإسكاتهم، طمأنتهم بأن لا أحد منا يعاني ضيقًا في التنفس كي يتركونا وشأننا، وهذا ما حصل، بقيت في نظرهم حالة اشتباه غير متأكدين منها، وبين الحين والآخر نستشعر حركة عند باب شقتنا، ومن العين السحرية أرى صلاح يعقم مقبض بابي. لم يكتفوا بذلك، بل علّقوا على بابي ورقة مكتوبة بخوف مُغلّف باللطف:
"لا تثقل بزيارتك على صاحب هذا البيت حتى يشفى من الوعكة الصحية"
ضحكتُ وزوجتي كثيرًا عليها، فيما لم يفهم أولادي ما الذي جرى، لم يهتموا بمعرفة كيف حصل، أمام سعادتهم بما حصل. ضمير زوجتي ينغز ضميري: "لكن والله حرام اللي درته، الكذب حرام يا عبد العال"، أجيبها بأن الأمس كان يوم كذبة الأول من أبريل، وأنا لا أفعل شيئًا غير ممازحة جيراني وسأعترف لهم لاحقًا. أدرك، وتدرك زوجتي، بأنني لن أفعل.
لستُ متأكدًا إن كانت كذبتي خطيئة، لستُ متأكدًا حتى إن كانت مساعدة جيراني جاءت خجلًا من عازتي بينهم، أم خوفًا مني؟
----------------------------------
الصورة: الجزيرة.نت
تدقيق: أميرة الكلباش
تعليقات
إرسال تعليق