*نُشرت على فاصلة، 2019
وجوم ساد القاعة لحظة دخولها، نحيفة بوجه مُصفرّ خالٍ من مساحيق التجميل، إلاَّ من بعض الكحل الذي زاد ملامحها رُعبًا.
تجرأتْ إحدى الطالبات بالاقتراب منها وتحيتها، فيما انهمكت الباقيات في مراجعة أخيرة قبل موعد الامتحان بدقائق، في محاولة بائسة لإلصاق ما عجزن عن إلصاقه بذاكراتهن في اليوم المنصرم.
اقتربتْ منها الفتاة بثقة مزعومة، وبمَسْكنة مصطنعة: "مادة اليوم صعبة يا أبلة!"، ابتسمتْ المعلمة، فتسربتْ بعض الطمأنينة لقلب الفتاة، ولقلوب بعض زميلاتها اللاتي يراقبن عن كثب بماذا ستسفر "المفاوضات" التي اعتادوها من زميلتهن "الشجاعة" إثر دخول المعلمات المراقبات للجنتهنّ، استأنستْ، استجدتْ: "ساعدينا يا أبلة! يا أبلة أنتِ عارفة الظروف اللي نمروا بيها! ربي يقوّي سعدك يا أبلة!"
"أنا متزوجة وصغاري قريب يولوا في عمرك"، قالتها المعلمة بفخر، إذ اعتبرت دعاء الفتاة علامة على ظهورها بمظهر أقل من سنّها، فيما استعملت الأخرى هذه الحيلة خوفًا، فعاقبة توقعاتها بزواج إحدى المعلمات قد يأتي بنتائج عكسية إن لم تكن متزوجة، تعلمتْ أن تؤجل دعوتها بـ"ربي يخليلك صغارك!" إلى أن تتأكد من حقيقة الأمر.
"اطمنوا... أنتم زي بناتي"، قالتها بغمزة استعملتْ فيها كلتي عينيها، ففهمتْ الطالبات المعنى، وابتهجن.
بُترتْ فرحتهن بدخول مُعلّمة أخرى كُلّفتْ أيضًا بالمراقبة، لم يحتجن إلى التفاوض معها فقد جربنها في اليوم السابق، "مسمومة"، يقطّر السم من عينيها وحنجرتها حين تصرخ: "عينك في ورقتك يا طالبة!"
لاحظتْ الأولى ردة فعل التلميذات، ولم تحتج تفسيرًا فهي تعرف زميلتها جيدًا، والأخرى أيضًا تعرفها، كانت لجنة المراقبة عبارة عن نقيضين، احتارت الطالبات أيُّ المعسكرين سيفوز؛ معسكر "الأبلة الطيبة أم المسمومة؟"، النصف الأول من زمن الامتحان، امتلأ بالدموع، الدعاء والابتهالات، الآهات والنشيج والتوسّلات، لقد كانت النتيجة واحد – صفر لصالح "المسمومة" وسط حياء وضعف حيلة الأخرى، نال اليأس من كثير من الطالبات فسلّمن أوراقهن شبه فارغة.
خلال النصف الثاني، بدأت "الطيبة" في نقل الإجابات سرًا متظاهرة بالاهتمام بالطالبات والتأكد من سلامة كتابة أسمائهن وأرقام جلوسهن، حاولتْ إغراء زميلتها؛ "لو وراك حاجة تقدري تروحي توا نقعد معاهم أنا، شن فاضل هو إلاَّ هالعشرة بناويت!"، نظرة جانبية "خنايسية" كانت كفيلة بإسكاتها وتدمير خطتها.
"حرام عليك! تو اديري صغار وتجربي حسرة قلب اماليهم! علاش هكي ونصهم نازحين وما عندهمش لا ضي لا اميه؟ حرام عليك!"
عتبتْ عليها بعد انتهاء الامتحان وخروج آخر طالبة مكسورة الخاطر، كادت تبكي وهي تلوم زميلتها على شدّة مراقبتها وصلابة رأيها وإصرارها على عدم ترك ثغرة طفيفة للـ"مساعدة" ولو بالتجاهل، رغم أنها واثقة من وابل الأدعية بالفقد والابتلاء ستنهال عليها فور خروج الطالبات من القاعة؛ فاجأتها الأخرى بجاهزية ردّها وحجتها في محاضرة قصيرة ألقتها على مسامعها:
"هذا اسمه غش، لا مساعدة! وأنا أؤدي واجبي، لا بدَّ للمجتهد من النجاح وإن كان بنسبة أقل ممّا يطمح إليها، هذا لا يهزّه بل يزيده إصرارًا على إثبات قوته لنفسه ولمن حوله... المجتهد يجد حلولاً لمشاكله وإن بلغت عنان السماء، لا أظنه مضطرًا للغش، الساعون للغش هم أولئك الذين يبحثون عن وسيلة ما للنجاح الذي لن يجعل منهم إلاَّ عبئًا جديدًا على ميزانية مرتبات الدولة، حيث يقبضون مرتباتهم مقابل توقيع اسمهم يومًا في الأسبوع في إحدى المصالح الحكومية، نجاحًا قد ينتج عنه رقم وطني لاسم تنقصه الهمزة أو المد أو يزيد فيعاني صاحبه الأمرّين لتصحيحه، أو ينتج عنه مكاتب خدمية لا تصلح إلا لتناول "السفنز" واحتساء الشاي فوق أوراق معاملات الناس ومصالحهم، أو قد ينتج عنه معلم جاهل يتسبب في تكرار السيناريو! وإن انتقلت عدوى هذا الوباء إلى الجامعات، فابحثي لاحقًا عن طبيب يعالجك، أو مهندس يشرف على بناء بيتك، أو مُحامٍ أو قاضٍ يردُّ لك حقوقك!"
دهشة تملكتْها ممّا اعتبرته مبالغات، وحنقًا أصابها جراء التلميح بالمعلم الجاهل؛ لم تجد ما تتفوه به إلاَّ: "حسبي الله ونعم الوكيل!"
خرجت من بوابة المدرسة بصعوبة متشنجة من "التلقيحة"، لم يتعدّل مزاجها إلاَّ حين التففن حولها طالبات تعرفتْ إلى بعضهن ولم تتعرف إلى أكثرهن؛ "راقبي علينا غدوة يا أبلة باهي؟ بالله عليك!"، "راقبتْ عليكم أول أمس خلّي فرصة لغيرك!"، "ما تعدليش عليها يا أبلة تعاليلنا حني لجنة 6 لتوا كل اللي جونا مسمومات مش حاسات بينا يا أبلة والننننبي!"
أضحكها الإطراء المبطن بالمحبة من الطالبات وإن غلفته المصلحة، هكذا حدثتها نفسها، ثم انتبهت لنظرة حاقدة ترمقها عن بعد مراقبة لمشهد انهمار الطالبات عليها كالسيل واستجداءاتهن، كانت النظرة لوليّ أمر ينتظر في الخارج ابنته؛ استنتجتْ: "خيره يفنّص هذا؟ أكيد ولي أمر طالبة سوسة!"
تدقيق: زينب عكرة
تعليقات
إرسال تعليق