*نُشر على فاصلة، 2021
فلنتفق أولًا أن قراءتك لهذا المقال هي إقرار واعتراف ضمنيّ منك بأن رومانسية العمل الإبداعي في أكثرها وهم. قراءتك لهذا المقال إقرار منك بأن الأعمال التي لا تُنسى لا ينبغي أن تكون هدفًا في حد ذاتها، نحن لا نبدع بحثًا عن لحظة خلود بقدر ما نفعل ذلك لشعورنا بالتزام داخلي تجاه شغفنا، سواءً كان شغفًا بالكتابة أو الموسيقا أو الرسم، أو أي شكل من أشكال الإبداع، وبعضها قد يكون عملًا إبداعيًّا نسترزق منه ككتابة المحتوى والتصاميم الدعائية، إلخ...
لنتّفق أنك بانضمامك إلينا هنا فهذا يعني أنك لم تستسلم بعد لعبودية هذا الوحي أو الإلهام، وقررت أن تمسك بزمام العملية الإبداعية وتكون أنت سيّد إلهامك، إذًا كيف تصنع إلهامك؟ وكيف تعصف بأفكارك كي تخرج بإنتاج إبداعي؟
>> علينا أولًا أن نعرف: ما معنى العصف هنا؟
العصف الذهني "Brainstorming" هو مصطلح أكثر واقعية للمصطلح الرومانسي المدعوّ "الوحي أو الإلهام"، وهو عملية العثور على أفكار جديدة أو حلول لمشاكل موجودة، وينجح تقريبًا مع أي مهنة فيها جانب إبداعي.
منذ بدأت النشر من خمس سنوات مضت، عبر مدونتي ثم في فاصلة، التزمت بقواعد معينة، اكتشفت لاحقًا أنها أدوات "عصف ذهني"، ساعدتني على الاستمرار وعلى إنجاز أول رواية لي والتي فازت في مسابقة عربية، هذه الأدوات ساعدتني أيضًا في إنجاز 90 نصًّا تقريبًا، بين القصة القصيرة والمقال والتقرير، نشرت كتابي الثاني وهو مجموعة قصصية، وانتهيت من رواية ثانية ما زالت تحت التقييم.
>> ما هي إذًا هذه الأدوات؟
1. الخُلطة:
كثرٌ من المبدعين والفنانين يميلون إلى العزلة، وهذه حقيقة لا مفرّ منها، هذا لأن طبيعة العملية الإبداعية في حد ذاتها تحتاج إلى عزلة وتركيز، لكن قبل الانطلاق في العمل الإبداعي، نحن بحاجة إلى فكرة، والفكرة لا تأتي من العدم، لا بُدّ للمبدع أن يكون أكثر اندماجًا في الوسط المحيط به، سواءً على أرض الواقع أو على السوشيال ميديا، فالأفكار قد تأتي من منشور على فيسبوك أو تغريدة على تويتر، تفاجئك في دردشة عابرة وأنت واقف في طابور مصرف أو فرن أو من موقف مؤلم في طابور البنزين! مهما كانت شخصيتك انطوائية، أنت بحاجة إلى الناس وبحاجة إلى النزول من برجك العاجي بين الحين والآخر، بحاجة إلى ما تسميه عادةً: "نفخ ودوة فاضية".
2. القراءة ومفاتيح البحث:
طبعًا، القراءة! ما الجديد هنا؟ اسأل نفسك: إلى أي حد أنت ملتزم بها؟ وهل تستثمر ما تقرؤه بالصورة الصحيحة؟ القراءة المجردة قد لا تكون أداة مفيدة إلا بقلم ومفكرة تسجل بها تواريخ أو أسماء أو عناوين أثارت فضولك، وهذا يحتاج منك تسجيل أي كلمات مفتاحية مرتبطة بالموضوع الذي وجدتَ نفسك مهتمًّا به. في تجربتي مع كتابة "عايدون"، حين وجدتُ نفسي أميل إلى الكتابة فيها عن أزمة الهوية والإقصاء بأنواعه المختلفة، سجلت كل ما يلزمني للبحث عنه ودراسته، لأني أحترم القارئ، وهذه نقطة مهمة، مثلًا: طرابلس في السنوات الأخيرة القليلة قبل الاحتلال، حركات المقاومة الليبية وعلاقتها ببعضها بعضًا ومدى توافقها واتحادها من عدمه، الليبيون في المهاجر العربية وبعد ذلك ركزت عليهم في المهجر السوري، الهاربون من كريت، صيادو الإسفنج في ميناء طرابلس، بشير السعداوي، الشكل العمراني لطرابلس قبل وبعد الاحتلال، الشخصيات الهامة في طرابلس تلك الفترة، أهم أحداث سنة 2014 -والتي يقع فيها جزء كبير من أحداث الرواية-، أسرى التشاد وتواريخ متعلقة بالهزيمة فيها وبالأسرى اللذين انضموا إلى المعارضة الليبية، وحتى أسماء أنواع الأسماك لأن إحدى الشخصيات كانت تحب "الكسكسي بالحوت"!
3. لا تُعِد اختراع العجلة:
هذا ما لا تفتأ "أميرة الكلباش" مؤسسة هذا الكيان عن ترديده على مسامعنا كلما استصعبنا أمرًا متعلقًا بكتابة أو إعداد محتوى ما! وكُلّما كُلّفنا بمهمّة وجدنا أنفسنا نبحث عمّن سبقنا فيها إقليميًّا أو حتى عالميًّا، وهذا يثمر دومًا، وهو لا يعني النقل بالطبع، ولكن مشاهدة أمثلة سابقة تساعدك على الخروج منها بفكرة خلاقة، فدماغك سيعمل كالإسفنجة، وكل الألوان التي يمتصها ستتسرب لاحقًا في شكل فكرة جديدة حتى وإن كانت توليفة، أي خليط من أفكار عدة سابقة، أسلوب الطرح يميزك، والإبداع لا يعني خلق فكرة من العدم، كل المبدعين تأثروا بأفكار من سبقوهم.
4. لا ترمِ شيئًا:
دُسَّ في الأدراج أفكارك ومحاولاتك، في ملفات على الكمبيوتر أو على التليفون، المُهمّ أن تكون منظمًا وجامعًا لأفكارك كلها في زاوية واضحة ومحددة غير قابلة للنسيان أو للحذف نتيجة خطأ أو سهو، كل هذه الأفكار حين تعود إليها يومًا ما ستهديك فائدة، مهما كانت ضئيلة، ستشعر أن نفسك بالأمس قدّمت إلى نفسك اليوم خدمة عظيمة!
5. قدّم عملك ولا تستحِ منه:
ما هي أسوأ الاحتمالات؟ الغلطة لن تقتلك، وإذا لم تُقدّم عملك أو فنّك إلى الجمهور فلن تتعلم، ولن تتعرف على ما ينقصك، لهذا فإن نسبة الفائدة في الواقع ستكون أكبر من نسبة المجازفة حتى في حال فشل العمل المُقدّم.
6. اقرؤوا سِيَر السابقين:
لمن هم في مجالك، أو المختصين بمجال تجد نفسك مهتمًّا به وترغب في استثماره في عملك الإبداعي، السير الذاتية خير معلم، شخصيًّا أراها أثمن من كل دورات التنمية البشرية وأخواتها، تجارب السابقين معلم حقيقي. إضافة إلى الأفكار، فكتب السيرة الذاتية تعتبر محفزًا قويًّا للعمل والاستمرارية.
7. آخر أداة عندي هي: البيئة الحاضنة:
يجب، يلزم، ينبغي عليك أن تضع نفسك في وسط يشبهك، يدعمك ويساندك ويحرك فيك الغيرة الإيجابية التي تجعلك تخجل من فكرة الاستسلام أو الكسل أو الإحباط، بإمكانك اعتبار هذا الوسط كمولد الكهرباء الذي يضيء مصابيح عقلك كلّما انقطعت الكهرباء عنه!
أنا مثلًا التزمت وارتبطت بمجتمع فاصلة، وكونت فيه علاقات صداقة مقربة جدًّا ساعدتني وساندتني وحرضتني على الاستمرار في أوقات كنت منهكة، كأوقات مرضي، أو أيام نزوحي في الحرب الأخيرة.
هل تستخدمون هذه الأدوات أو بعضًا منها تلقائيًّا كما كنت أفعل؟
أم أن لديكم أدوات أخرى لا أعرفها؟ احكوا لي عن تجاربكم، وساعدوا غيركم كي يصبح سيّد إلهامه ويمسك بزمام العملية الإبداعية.
--------------------------------
- تدقيق | علياء بركة
تعليقات
إرسال تعليق