سالم يا سالم

 


جافاها النوم، تلك الليلة الأولى التي يمسك فيها سالم نوبته في المستشفى بعد شهر من زواجهما. ألحّ عليها في الذهاب إلى بيت أهلها؛ ولكنها أبتْ؛ فهي سيدة بحجم هذا البيت الكبير الذي تتحدث عنه كل مزارع "قصر بن غشير"، رغم قلة البيوت والخواء العظيم الجاثم على المزارع وقاطنيها تلك الأيام.


لم يكن لديهما خطٌّ أرضيٌّ بعد ليطمئن عليها، فأوصى والدته بالمجيء والمبيت معها، دون علمها.


تاهت "عكّارية" أخيه التي أقلّت الوالدة...

- "هي هذي فتحة الشارع، أنا متأكد يُمّا!"

- "غير زيد شوف الفتحة اللي بعدها! بالك غيروا مكانها قابينة الضي وجابوها هنايا"

- "تي غير كيف بيغيروها؟! شن هي حبّيلة باش يغيروا مكانها في نهارين! أنا متأكد إن هذي هي نفسها"


دارا كثيرًا حتى قاربتْ الساعة العاشرة ليلًا، لم يتبينا بيت سالم، ولا حتى بوابة الاستراحة التي يتوسطها، كأنه لم يكن يومًا، أرض جدباء لا فيها بئر سالم ولا "حبّيلته" تحيط بها.

بعد يأس، عادتْ الأم رفقة ابنها أدراجهما قلقين من المبرر المقنع الذي سيخبران به سالم، إذ كيف يتوه الأخ عن بيت أخيه!

- "نتصلوا على رقم الإسعاف؟ أكيد مناوبة سالم غادي الليلة"

- "لا لا، ما فيش داعي تقلّقه... ما بيصيرلها سوْ، هي مش أول النساوين اللي باتوا بروحهم ولا آخرهم"

- "لكن سُعاد صغيرة يام و..."

- "أس أس تحشّم... تي أني كنت أصغر منها لما بوك خلاني بروحي في السانية ومشي ليلتين يبيع السعي في طرابلس"


حاولتْ سُعاد طرد الأفكار التي باغتتها وكأنها تنتظر لحظة استفرادها بها، تذكّرت كل الغرائب التي حصلتْ منذ قدومها عروسًا على هذا البيت، تحديدًا في غرفة نومها، أمورٌ لم تجد لها تفسيرًا، أو لفّقتْ لها تفسيرًا ما، كفستان زفافها الذي وجدتْه مفروشًا في إحدى الليالي فوق سريرها قبل خلودها وزوجها إلى النوم وإنكار سالم علاقته بالأمر، أو قناني عطرها التي تفرغ سريعًا رغم حرصها في استخدامها وتركيزها على مدى النقصان الذي يطرأ على كل قنينة بعد كل استعمال.


حتى لحظات الصفاء التي كانت تصنعها لزوجها، بشريط كاسيت للزمزامات يصدح:

"سالم يا سالم طوّلت الغيبة... سيورا لَحْبيب يا عيني يرجع لحبيبه"


وحين تقلب وجه الشريط، تتكرر نفس الأغنية، وحين تبدّله بشريط آخر، نفس الأغنية، فكّرت أنه لربما أحدهم أفسد أشرطتها.

"آه يا لولا الخوف من بويا وأمّي.. يا نهرب للغالي يا عيني وما يدروا عني"


حتى حين أحضرت من بيت أهلها شريطًا آخر تأكدتْ من محتواه...

"آه يا لولا الخوف من بويا وعمّي... يا نهرب للغالي يا عيني ونشكيله همّي"


تندّرا بما حدث، "ماعندكش مفرّ مني يا سُعاد!".


شتّتتْ تفكيرها في كل ما حدث، وحين تكرّم عليها النوم بسِنَةٍ منه استيقظتْ فزعة وكأنما ثمة من هزّها، توجّهتْ عيناها لا إراديًّا نحو خزانة ملابسها المقابلة لها عند قدميها، وإحدى ضلفاتها مُشرّعة، كانت سُعاد متأكدة من أنها لم تفتح خزانتها منذ الصباح.


تجمّدتْ، سرتْ برودة من رأسها وانسابتْ كدلو ثلج على وجهها، خلف أذنيها، وحتى كتفيها. سمعتْ صوتًا يصدر من معدتها. ربما عاد سالم قبل الأوان وأخذ من الخزانة شيئًا ما، حاولتْ إقناع نفسها بالفكرة.


"سالم... سالم..."


لا ردّ. راودها الشكّ أن يكون في الحمّام، ولكنه تبدّد حين لم يظهر لها خيط الضوء الذي يمتدّ من تحت باب الحمّام حتى غرفتها.


"سالم... ما تبصّرش معاي!"، سمعتْ في صوتها ارتعاشًا زادها ارتباكًا وكأنه لم يصدر من حنجرتها.


صرير ضلفة الباب وهي تُغلق ببطء كان كفيلًا بتجميد الدماء في عروقها، تسارعتْ أنفاسها، انزلقتْ بضع قطرات عرق من منبت رأسها على جبينها ووجنتيها، جحظتْ عيناها وشُلّت أطرافها، طنينٌ سكن أذنيها للحظة، وحين استجمعتْ بعض قواها مقرّرةً القفز من سريرها نحو باب الغرفة، أُطبق الباب بقوة، ساد الظلام، رائحة حريق ما ملأت الغرفة، وضجيج رياح صفّرتْ رغم سكون الجو، كل ذلك في ثوانٍ قليلة كان آخر ما استشعرتْه حواسّها.


صباح اليوم التالي، اضطُرّ سالم إلى قلع باب غرفة نومه بعد عجزه عن فتحه حتى بمفتاحه الاحتياطي، كان متأكدًا بأن خطبًا ما جرى لعروسه، تمتم وبرطم على أخيه وأمه.


لكنّ الغرفة خالية من سُعاد، النافذة مغلقة غير مكسورة، الباب مغلق من الداخل، وفستان الزفاف مُمزّق، مُحترق الحوافّ ومفروش فوق السرير... لا دماء، لا أثر لأي شجار أو تكسير أو فوضى... من الذي أغلق باب الغرفة من الداخل؟ وأين ذهبتْ سُعاد؟


لم يعرف أحد الإجابة، لا من أهلها، ولا من أهله ولا من سُكان المزارع المجاورة لهم، لا الشرطة ولا المباحث... لا أحد.


امتنع سالم عن المبيت في بيته منذ تلك الحادثة، وحدسٌ ما أنبأه بأن ما حدث لا يمُتّ لعالمهم بصلة، حدسٌ دعمته تلك المواقف الغريبة التي حدثتْ ولم يجد لها تفسيرًا أو يحدّث بها أحدًا، لِمَ لم يُصدّق حدسه؟ لِمَ يخوننا الحدس حين نصدّقه فيجعل منّا أضحوكة ويصدق إذا ما كذّبناه؟!


أخبره الجيران بعدها بأنهم يسمعون كل ليلة صوت "الزمزامات" يصدح من بيته بأغنية "سالم"، دون توقف، حتى أذان الفجر. لا هو أراد تصديقهم، ولا هم أرادوا تصديق ما يسمعونه، ورغم هذا لم يتوانَ الجيران عن ذكر ما يسمعونه لكل مشترٍ محتمل للبيت، بار البيت ولم يجد له مُشتريًا.


أما سالم الذي امتنع عن الزواج لاحقًا، فقد باتت تنتابه نوبات هلع كُلّما تناهتْ إلى سمعه أغنية بصوت الزمزامات المُدوّي، في عُرس لقريب أو بعيد، وانتقلتْ عدوى هذه الحالة لكل فضوليّ أخذته قدماه إلى البيت المهجور بحثًا عن مصدر الصوت.


آخر الفضوليين كان فتًى ينتمي إلى إحدى الكتائب المتصارعة في منطقة "القصر"، جديد على المنطقة؛ لم يُحذره أحد، استغرب كون منطقة حرب مهجورة كهذه يقيم فيها أحدهم عُرسًا! لم يتوقف فضوله حين اكتشف أن الصوت يصدر من البيت القديم المهجور وسط كل تلك الفيلات الحديثة، قطع الحبيلة واقترب من نافذة غرفة سعاد مُستطلعًا، رآها مرتدية فستان زفافها، بوجه أبيض مليح وحنّاء تُزين يديها، تجلس على حافة السرير مُتطلّعة إلى السقف، مُردّدة مع الأغنية:


"سالم يا سالم يا نور عيني... سيورا لَحْبيب يا عمري يرجع ويجيني"


تبسّم استغرابًا واعتقادًا بأن أحدهم "يُمتّع" نفسه في هذه المنطقة المهجورة. صفّرَ بإعجاب، نزلتْ بعينيها سريعًا بحقد من السقف نحو مصدر الصوت.


فجرًا وبعد بحث مضنٍ، لم يفهم أحد ما الذي حدث للفتى المسكين، فقد وجدوه جثة متفحمة عند عتبة النافذة، وعزوا ذلك لقذيفة أو لغم ما، رغم عدم وجود أي أثر لحريق أو تفجير في جدران البيت وعشبه الجاف تحت النافذة... لم يخطر ببالهم أن عقوبة الفضول عند "الآخرين" من جنس عمل مستحقيها.

تعليقات