الرايس

 


*نُشرت على فاصلة، 2020


لا يعلم الرايس "مفتاح" كم بقيَ من الزمن يصارع الدوامة التي فاجأته، ندم ألف مرة خلال صراعه للمحافظة على رأسه فوق الماء، ندم لأنه طمع في المزيد، وأراد أكثر من القروش الأمريكية والساعة الإنجليزية التي غنمها من "الفرقاطة البحرية المقاتلة فيلادلفيا"*، أنبأه حدسه أنَّ فيها المزيد، وما عليه إلَّا العودة إليها بعد انشغال كل من في المحروسة بالأسرى الأميركيين، فلم يجد بانتظاره إلَّا الموت غرقًا، بعد غرق قاربه لسبب يجهله، لا صاحب يسمع صياحه، ولا خبرته في منازلة الأمواج ساعدته على تخليص نفسه من هذا الشيء الذي يسحبه لأسفل، "هل القروش الأمريكية المكومة في حزامي والساعة الإنجليزية المصنوعة من معدن آخر غير الذهب يجذبني إلى القاع يا ترى؟"...

خلال محاولاته للتجديف بيديه وقدميه استطاع مرة إثر مرة أن يتطلّع برأسه ليشهق كمية جديدة من الهواء يخزنها في رئتيه المستجديتين، لم يهن عليه نزع كيس القروش والساعة من حزامه والتخلص منها، ما زاده يأسًا من النجاة هو اختفاء معالم المدينة، أم أنَّ الظلام حال بينه وبين تمييز بعض المشاعل التي يحملها الصيادون ليلًا يا ترى؟ 

حاول أن يُمنّي نفسه ويقنعها بأنه سينجو لا محالة؛ هو بحار من الطراز الرفيع، ومجاهد بحري لا يخشى فرقاطات الأوروبيين ولا الأميركيين ولا مدافعهم، شارك في كل غزوات الأسطول الطرابلسي وكانت النجاة حليفته من الموت والأسر، والأهم من ذلك أنه كان في كل مرة يغنم ما يُعينه على إعالة أسرته لشهرين أو ثلاثة.

بينما كان يجدف، ارتطمت قدماه بشيء صلب، نجح في الإمساك به دون إدراك ماهيته، بدا أنه صخرة ولكنها ملساء، تشبث بها وتتبعها حتى تمكن من الوصول للسطح، شهق عدة مرات متتالية، غير مصدق بأنه نجا! بقيَ على تلك الحالة لدقائق حتى بدأ تنفسه بالانتظام، حينها فقط فتح عينيه، ورفع رأسه متأملًا الشيء الذي تمسك به، ناظرًا حوله في محاولة لتمييز البقعة التي وصل إليها.

تبين أنه يتكئ في تلك اللحظات على حائط طويل لا يكاد يميز نهايتيه، حائط من أحجار ضخمة وكأنها قطع بناء مغمورة في الماء! التفت إلى الوراء ليعرف مصدر الضوء البرتقالي المنعكس على الحجارة فهاله المنظر؛ سفن عملاقة بلا صواري، تحمل فوقها صناديق مستطيلة ضخمة ملونة، الأزرق والأخضر والأحمر، ما هاله أكثر هو سلسلة الأضواء المنتشرة على طول الساحل الممتد خلفه، أضواء ثابتة قوية لا ترتعش! وأضواء أخرى لأجسام لم يتبينها، تتحرك باستمرار، تدريجيًا بدأت تصل إلى أذنيه أصوات ضجة قادمة من هناك، زمامير لم يعرف من أي آلة تصدر! "بحق الله وأوليائه الصالحين، أين رميت بنفسك يا رايس مفتاح؟!"

ازداد تشبثًا بالصخرة، تسلقها واحدة بعد الأخرى حتى وصل إلى طريق طويلة تبدو ممرًا ضيّقًا، يحاذيها وعلى طرفها الآخر سور، الطريق رمادية غير متربة، والسور أيضًا، لم يعتد هذا اللون! ولم يميز نوع مادة الطريق، هو يعرف "القار" ولكنه يعرف أنه أسود لا رمادي، ثم إنهم لا يرصفون به طرقاتهم في محروسة طرابلس ولا في غيرها! أراح قدميه قليلًا، ألقى بظهره فوق الممر المصنوع من المادة الغريبة وطفق يقلب تفكيره؛ "أتكون هذه مالطا؟ أيعقل أنني سبحت حتى مالطا؟ أم أنها تونس؟! لا بكل تأكيد، فتونس لا تختلف كثيرًا عنا، هذا ما حكاه لي نسيبي في رحلته الأخيرة إليها، ولو رأى ما أراه الآن لما استطاع كتمانه!"

أصوات الزمامير الغريبة تتناهى لسمعه كل لحظة، وقف، مطط أطرافه، مسح شاربه الكث وتأكد من ثني طرفيه، تأمل نهايتي الممر، لاحظ عند إحدى الجهتين منارة قصيرة، "لا بدَّ أنها نهاية الطريق"، ثم تأمل الجهة الأخرى فلاحظ لا نهائيتها، إذ إنها تمتد لتدخل منطقة مظلمة ترسو إلى جوارها عدة مراكب، انطلق نحوها عله يجد شخصًا يحاوره ويفهم منه.

"السلام عليكم" قالها دون يقين بتلقي أية إجابة، فهو يشك إن كان الشاب الجالس على بعد أقدام يتكلم نفس لغته، نهض الفتى من متكئه حيث حبال وشباك صيد مكومة على حافة المرسى، رد السلام: "وعليكم السلاااااام ورحمة الله"، قالها ملحّنة، اقترب الرايس مفتاح من الشاب حتى وقف قبالته:

"أتتحدث العربية؟"

تعجب الشاب من سؤال الرايس وفغر فاهه، وبدل الإجابة وقف يتأمل منظره ومنظر ثيابه التي تقطر بالماء تاركة وراء الرايس أثرًا يدل على خط سيره، ارتبك الرايس من سخافة الموقف، وانتبه بدوره لغرابة ما يرتديه الشاب، سروال أسود ضيق! قميص بني قصير مزرر بأزرار متباعدة! ورأس حليق من الجنبين منفوش في المنتصف، "لا يمكن أن يكون طرابلسيًّا" هكذا حدثته نفسه.

تأمل الشاب قنينة بها سائل أبيض بعد انتهائه من تأمل الرايس، ابتسم وقبّلها. عرض على الرايس شربة منها "بوخة.. تبي؟" 

أتراه يهوديًا؟ فهم من يجيدون صنعها عندهم في المحروسة… "لا، شكرًا، لا أفضلها، أُفضّل قليلًا من الماء العذب، وإن كنت لا تملك إلَّا المسكرات فلا بأس ببعض "اللاقبي"! قالها الرايس بخجل بعد أن تذكر نذره بالتوقف عن السُكر باللاقبي أو أيِّ نوع آخر إثر قيام زوجته بالسلامة بعد ولادة طفله الرابع التي كادت تُرديها.

نخر الشاب بأنفه، "لاقبي؟!"، ثم عاد لمتكئه… 

"هل أنت يهودي؟"

"احترم نفسك!"

ارتبك الرايس إذ لم يفهم لمَ اعتبر الشاب سؤال الرايس مستهجنًا.

"عندنا، اليهود هم من يصنعونها!"

"لا يوجد يهود ولا نصارى في بلادنا يا هذا"، استغرب الرايس الكلام الذي سمعه، فيما طفق الآخر يتأمل منظره، عاد لمتكئه، تناول قنينة أخرى بها ماء للشرب ومدّها له، لم تكن زجاجية، ولا فخارية، لم يميز الرايس المادة المصنوعة منها، فهي قاسية وفي نفس الوقت لينة، أصدرت صوتًا مزعجًا وانكمشت حواشيها حين شرب منها! أيُّ عالم هذا الذي أتاه؟

"ما الذي تفعله هنا بهذه الثياب؟" سأله الشاب بفضول.

جلس الرايس إلى جوار الشاب عله يفهم منه توضيحًا، وأجابه بحسن نية: "كدت أغرق وقد خرجت للتو من الماء، و…"

"لا.. أقصد من أين أتيت بهذا القميص الأخضر المزرر بعناية، وهذا السروال الأحمر الفضفاض كتنورة نساء! هل خرجت من مسرحية ما؟" وبدأ بالضحك! لم يفهم الرايس ما المضحك في ثيابه، في الواقع فكر أن لو تأمل الشاب منظره قليلًا لاكتشف أنه أكثر طرافة!

"ما اسم هذا المكان؟"

"هذا ميناء بحري" واصل ضحكه…

"لا، أقصد ما اسم هذه المدينة التي أرى أطرافها وأنوارها؟"

التفت الشاب حيث أشار الرايس، تجرّع قليلًا من السائل الأبيض ثم أجاب مسايرًا الرايس، ظانًّا بأنه قد يكون رجلًا مخبولًا، أو متعاطيًا لنوع جديد من الحشيش: "هذه طرابلس"

"أي طرابلس؟" لم يكن الرايس واثقًا من سؤاله، ولا واثقًا مما سيسمعه…

"طرابلس الغرب" واستمر الضحك...

"أتقصد طرابلس القرمانلية؟"



 "أتقصد طرابلس القرمانلية؟"

تحول الضحك إلى بكاء من شدته، حتى تقيأ الشاب ما بجوفه، مسح دموعه، رمى بقنينته في المياه، تربع وقرر إنهاء اللعبة:

"من أي مصحّ عقلي أتيت يا هذا؟ أو ما اسم الصنف الذي تتعاطاه؟ مهلًا... آسف! أخبرني ما الذي رماك في البحر في هذا الوقت؟!"

"عدت إلى الفرقاطة الأميركية المحاربة فيلادلفيا، العالقة قرابة شواطئنا بعدما استدرجناها لمياهنا الضحلة، لم أكتفِ بما غنمته مساء اليوم بعد استسلام آمِرها "بينبريدج" وبحارته، فقررت العودة بعد أسرهم وإيداعهم سجون القلعة، استغرق الأمر نهارًا كاملًا، وبعد تأكدي من خلو المرفأ وانشغال سكان المحروسة بوفد الأسرى وغنائم السفينة العظيمة والاحتفال بها عروسًا جديدة تنضم لأسطولنا، انطلقت على مركبي نحوها، علّي أجد أشياء ثمينة غفل عنها رفاقي المجاهدون…"

"هل أنتم قراصنة؟" قالها الشاب مبتسمًا، منسجمًا مع القصة التي يرويها الرايس، ذلك الرجل الغريب الخارج من الماء.

"هكذا يسمينا أعداؤنا! نحن مجاهدون بحريون، نأخذ الجزية أو نقاتل من يمر قرابة شواطئِنا دون إذن، والغنائم هي أرزاقنا، نعيش منها وندفع الأتاوات لسيدي يوسف باشا..."

"ولكن ما تفعلونه يعد سرقة حسب القوانين الدولية" تظاهر الشاب ببعض الجدية مستمرًا في اللعبة التي وجدها ممتعة.

"أي قوانين؟ ليس هناك قوانين في شواطئنا إلا ما يفرضها سيدي يوسف باشا القرمانلي!"

"وما الذي أغرقك إن كنت مجاهدًا بحريًا، ألا ينبغي عليك إجادة السباحة؟!"

"بلى!.. هذا ما يحيرني فعلًا، ربما هذه القروش والساعة هي ما سحبني للأسفل.."

أفرغ الرايس كيسًا مدسوسًا بين طيات حزامه الأبيض الملفوف حول خصره، لمعتْ عيْنَا الشاب وطارت سكرته، راحت نشوته وبقيت الدهشة، الدهشة وبعض الرغبة في الحصول على تلك التحف النادرة، "هل سرقها هذا الرجل المجنون من المتحف؟! والساعة.. تبدو ذهبية بحق!"، وبدأ حواره يتخذ سياسة تتعدى التسلية:

"ما رأيك أن تبقى هنا، أبيعها لك ثم نتقاسم سعرها؟ لا يجب على شخص يرتدي ثيابًا على شاكلتك أن يقترب من المدينة الآن، إذ يكثُر النّشالون والمخمورون! اسمع..."، بدأ يعدُّ القروش الغريبة ويزن الساعة بكفه... "اصعد على متن هذا القارب خلفي، فهو لي، بإمكانك أن تبيت فيه الليلة، النسمة عليلة هنا والجو حار في المدينة، وسآتيك صباحًا بما تساويه بالدينار الليبي، أرجو ألّا تطلب دولارات فهذه عملة صعبة في زمن الحرب هذا"

التقط الرايس قروشه منتبهًا لعملية النصب التي قد يكون يتعرض لها في تلك اللحظات، انتزع الساعة جاذبًا إياها من السلسلة المتدلية منها، معبرًا بذلك عن رفض العرض.

"ولكن، أي حرب تقصد؟"

"آه.. اعذرني"، ضحك الشاب ثم أضاف وعيناه لا تفارقان منظر القروش والساعة، فيما همّ الرايس بدكها مجددًا في جيوبه:

"نسيت أنّك من قراصنة فيلادلفيا… آه اعذرني مجددًا، أقصد أنّك من بحارة يوسف باشا... يا سيدي، بعد زمانك هذا الذي أتيت منه، لا أعلم المدة فأنا غير ملم بالتاريخ كما يبدو عليك أنت ولن أجاريك! المهم أنه بعد زمانك هذا بقليل سينتهي حكم القرمانليين والأتراك من بعدهم، لأنه سيأتينا الطليان يا عزيزي، سيحكموننا بعد حرب كبيرة، ثم تأتي علينا حرب أخرى يهزمون فيها ويحكمنا الإنجليز، ثم ينتهي حكم الإنجليز وتصبح ليبيا دولة مستقلة"

"ليبيا؟!"

"نعم! وطرابلس هذه هي عاصمتها"

"المحروسة؟! ولكن هذه ليست المحروسة! ثم إنّ المحروسة يقطنها اليهود والنصارى من المالطيين واليونانيين والإيطاليين معنا وقد أخبرتني بأن هذه مدينة لا فيها يهود ولا نصارى!"

تجاوز الفتى ملاحظة الرايس الأخيرة، جذبه وأشار بيده نحو السراي البعيدة: "أنظر هناك، أترى ذلك السور العظيم؟ أليست قلعة الباشا؟"

"وكأنها هي، ولكنها ليست كذلك؛ أتكذب عليّ يا فتى؟!"

هستيريا ضحك جديدة وكأن السكرة عادت، واصل حكايته:

"بالطبع لن تبدو كالسابق، انظر فقد بنينا الشوارع حولها، وطرأت عليها تغييرات كثيرة طيلة تلك السنوات... يا عزيزي الغريب ذا السروال الأحمر، نحن الآن في 2019 ميلاديًا، توقفنا عن الدخول في حروب مع الأجانب، رحل عن بلادنا الغرباء، كلنا هنا مسلمون سُنّيون، ولكننا رغم كل هذا نحارب بعضنا منذ تسع سنوات دون هوادة"، تظاهر بأصابعه أنه يمسك مسدسًا وجهه صوب وجه الرايس، أغمض إحدى عينيه "بيو.. بيو.. بيو.." وتحول الضحك مجددًا، إلى بكاء.

نظر الرايس باشمئزاز نحو الشاب، تأثر قليلًا بما اعتبرها سعة خيال، وانتابه الحنق من سوء هذا الخيال وبشاعته؛ "أهذا ما تفعله البوخة بالعقل؟!"

تحول البكاء إلى نحيب، دموع ومخاط غرق بها وجه الشاب؛ وكأنها كانت تنتظر اللحظة المناسبة كي تتفجر ينابيعها من وجهه.

"كف عن البكاء كالفتيات! أيًّا كان هذا المكان البشع، أخبرني؛ كيف يمكنني العودة إلى محروسة طرابلس؟ يا فتى أجبني ولا تخض معي في خيالاتٍ أخرى؛ فقد اكتفيت!"

مسح الشاب وجهه بأطراف قميصه، وقف محدقًا حوله…

"أخبرتني أنك كدت تغرق أليس كذلك؟ ثم وجدت نفسك هنا!"

"بالطبع.. لِمَ سأكذب عليك؟!"

"اركب معي"

ركبا معًا في مركب صيد صغير تفوح منه عفونة الألواح والحبال والشباك، فكّ الشاب قيد المركب عن الرصيف، وانطلقا حتى تجاوزا ذلك السور العملاق والمنارة القصيرة، لم يتبادلا أية أحاديث إضافية، بعد نصف ساعة ابتعدا بما فيه الكفاية عن حاجز الميناء، طلب الشاب من الرايس النهوض والنظر عن قرب إلى جوانب القارب الخارجية، مدعيًا شكه من وجود ثقب ما، استجاب الرايس بتردد.

بعد دقائق، كان الرايس يجدِّف بقدميه ويديه مجددًا، تاركًا خلفه الشاب الذي ركله نحو المياه صائحًا: "طريق السلامة!" 

استغرق الأمر وقتًا طويلًا قبل أن ينال اليأس من الرايس، خاصة بعد اختفاء الأنوار الغريبة عن الأفق.

"رايس مفتاح! رايس مفتاح!"

الصوت الذي عرف به أنه ما زال على قيد الحياة، ابتسم قبل أن يفتح عينيه على وجه صاحبه الرايس جمال... "ما أجملك يا جمال"، قطع سعادته سعال قوي نال من رئتيه.

فسّر الرايس مفتاح ما رآه بأنه حلم راوده في غيبوبته؛ ولكنه لم يجد تفسيرًا لفقدانه الساعة الذهبية التي أشاد بها جميع أصحابه فور عثوره عليها وقبل عودته طمعًا في المزيد.

كانت الساعة في صباح اليوم التالي لدى أحد تجار الذهب بسوق "المشير"، واستقرّ ثمنها بين أصابع تاجر "بوخة" باعها سرًا لصياد شاب، يقضي وقته كل ليلة متسكعًا بجوار قاربه.

--------

تمت.

------

هوامش:

*فيلادلفيا، هي سفينة بحرية أميركية كانت تحت إمرة القبطان "بينبريدج"، أسرها البحارة الطرابلسيون في عهد حكم "يوسف القرمانلي" لطرابلس، في 31 أكتوبر 1803م، وفي 17 فبراير 1804م تمكن الملازم الأميركي "ستيفن ديكاتور" من حرقها ليمنع الطرابلسيين من ضمها لأسطولهم.


تدقيق: زينب عكرة.

تعليقات