لم أشعر يومًا بأن خطبًا ما يحدث في حياتي، من العادي جدًّا أن أرتدي ملابس ابن خالي التي أبدو فيها كفأر في "شوال" سكر كما تقول أمي -فأنا لا أعرف شكل "شوال السكر"-.
والدي عاطل عن العمل، أو ربما عمله هو الوقوف في طابور المصرف للحصول على "الحافظة" الشهرية كل ستة أشهر، لا أدري حقًّا ما الذي يفعله بتلك "الخمسمية"، فنحن جميعنا يعمل فقط لقوتنا اليومي، أنا أبيع المناديل، أخي الذي يكبرني بعام فقط يبيع قناني مياه النصف لتر، أمي تعمل في معمل تحضير وجبات الأفراح، قُفِل مؤخرًا بسبب حملة الرقابة، وانضمتْ إلى والدي بطالة في البيت، ينتظروننا بثمن المناديل والمياه، أحيانًا بأقل من ثمنها إذا لم يحالفنا الحظ، أحيانًا بأكثر من ثمنها إن ساق لنا الله أصحاب القلوب المعطاءة، الذين يمنحوننا ضعفي أو ثلاثة أضعاف ثمن ما نبيعه عند الإشارات الضوئية، كانت تلك السعادة بالنسبة لي.
كل هذا لم يبدُ لي غريبًا يومًا، حتى رأيته جالسًا خلف مقعد أمه التي تقود سيارتها "المرشيدس" تلك، بدا في مثل عمري، وهذا لم يكن جديدًا عليّ، ولا حتى "قرمبيوله" الأزرق بياقة بيضاء يزينها شريط أبيض، شاهدتهم كثيرًا أطفال المدارس، لطالما بدت مشاجراتي معهم بعبارة "خيرك تفنّص؟"، ما لفت انتباهي كان شبهه الكبير بوجهي الذي أراه بنصف مكسور في مرآة أمي، طلبتْ مني السيدة علبة منديل ومن أخي قنينة مياه، وبينما كانت تبحث عن "الفكة" في حقيبتها، انتبهتْ لحالة التأمل التي سيطرتْ عليّ كما سيطرتْ على الصبيّ، قهقه أخي مصرّحًا بما خجلنا من قوله: "يشبهلك! نسخة منك! غير هو نظيف وأنت امسّخ"، ابتسمتْ السيدة وهي تهز رأسها تتأملني، أعطتني ثمن علبة المنديل، وقنينة المياه، وثمن شبهي بابنها الذي بلغ ضعف ما اشترته منا.
عدتُ يومها أسأل أمي: "لو كنت خشيت مدرسة، صف شن بنقرا توا يا يام؟"،
فكرتْ قليلا وبدأت تحسب بأصابع يديها ثم قالت: "أظن بتكون صف رابع".
تكررت لقاءاتنا عند الإشارة، أحيانا تشتري منا بإكرامية، وأحيانًا أخرى تتجاهلنا تماما، ما كنت أحرص عليه أكثر من كرمها هو نظرة السعادة في عيني "شبيهي"، عرفتُ لاحقًا أنه يدرس في المدرسة القريبة من الإشارة الضوئية، في الفترة المسائية، وقفتُ مرة أمام المدرسة في انتظاره، سألته وهو يركض نحو البوابة بعد أن تأكدتُ من رحيل أمه، "أما صف تقرا؟ خيرك مستعجل؟"، أخبرني أنه في الصف الثالث، وبأنه مستعجل لأنه يريد الوقوف الأول في الطابور، ويريد أن يسبق بالجلوس في المقعد الأول، لم أنم ليلتها وأنا أفكر، "لماذا يريد الجلوس في المقعد الأول إن كانوا يتعرضون للتعذيب في المدرسة؟ هل تكذب عليّ أمي؟".
صارحتها صباح اليوم التالي قبل انطلاقي، "إنتي تكذبي عليا، المدرسة مليحة ونبي نخشلها"، لم تتفاجأ وكأنها كانت في انتظار هذا اليوم، أجابتني ببرود "غير نلقى شن نوكلكم باش نلقالكم حق كراسات وأدوات وشناطي"، تلك كانت اللحظة التي شعرتُ فيها بالعجز لأول مرة، شعرت بأن هناك خطبًا ما عليّ إصلاحه، "وكان جبتلك فلوس ادخليني المدرسة ولا تعطيهم لبوي زي ديما؟"، ضحكتْ ولم تردّ.
لم أكترث يومها بعدد المشترين قدر اهتمامي بهواتفهم وحقائب السيدات والفتيات اللاتي يقدن السيارة، إحداهن كانت تتكلم على الهاتف ممسكة به بيسراها، بينما الإشارة حمراء، نافذتها مفتوحة، وقفتُ قربها، أشارت لي بيدها كي أفهم أنها لا ترغب في شراء شيء، بقيتُ واقفًا، أطلقتْ إحدى السيارات زمارها ففهمتُ بأن الإشارة توشك أن تضيء بالأخضر، خطفتُ من يدها هاتفها وركضتُ في الاتجاه المعاكس ولم أنظر خلفي، سمعتُ صراخها، ولكن زمامير السيارات القلقة المستعجلة كانت أقوى منه، لم تلحق بي، شاهدني أخي فتظاهر بأنه لا يعرفني، بعتُ الجهاز عند فتى شك في صدق حجتي حين ادعيت أنه هاتف أختي ترغب في بيعه، شكه كان بسبب عثوره على ما قال بأنها "الشفرة" التي لم تنتزع من الجهاز، حلفتُ له بكل الأيمان المغلظة التي سمعتُ أبي يقسم بها مرارا وتكرارا في كل مرة يبيع فيها إطارات سيارات الجيران ويتهمونه بذلك وينكر، أمسكتُ بثمن الجهاز وأنا غير واثق من أمانة الفتى، ولكنه يبدو مبلغًا كبيرًا لا بأس إن غشني قليلا فيه.
فكرت أنه يبدو مبلغًا كافيًا لشراء حاجيات المدرسة، بدأت اتخيل "قرمبيولي" و"النسترو" الأبيض الذي سأربطه في الياقة، تخيلتُ شكل حقيبتي، سأختار كل شيء كذلك الصبي، وسأقف الأول في الطابور مثله، وسأجلس في المقعد الأول مثله، سأبدو أنيقًا ومهذبًا وسعيدًا مثله.
نسيتُ كل تخيلاتي من "الكف" الذي سبب حالة الطنين الشديد في أذني إثر كذبتي، أخبر أخي والدي بفعلتي، طلب مني الجهاز، أخبرته أنني بعته، طلب مني ثمنه، نظرتُ لأمي ولكنها خذلتني، ادعيت بأن المال سُرق مني، ولم يصدقني.
تلك الليلة عرفتُ معنى البكاء، ذقت ملوحة الدموع ولزوجة المخاط لغير زكام يصيبني، وحين أردتُ فتح إحدى علب المناديل نهرني والدي وهو يعدّ ثمن الجهاز، "مش ليك اهما، امسح خنانتك في كمك!".
تدقيق: أبوبكر المغربي
تعليقات
إرسال تعليق