مشروع أرملة

 



تُرى... لو دريت أنَّ خروجك من البيت الأحد الماضي، صافقًا الباب، غاضبًا متمتمًا، صابًا لعناتك، سيكون خروجًا من البيت إلى غرفة العناية المركزة، في غيبوبة بلغت يومها العاشر، تُرى هل كنت لأدعك تخرج بتلك الكيفية؟

لماذا لَمْ أكوِ لك قميصك الأبيض ذلك الصباح؟ لماذا تجاهلت طلبك ليومين متتاليين دون شعور بالذنب؟ لماذا اخترت أن أكون زوجة متمردة، وأردتك أن تكويه بنفسك؟ لماذا عندما سألتني عن سبب تجاهلي لطلباتك المتكرر مؤخرًا تذرعت بانشغالي بطارق الذي لم ينهِ شهره السادس بعد؟ لماذا لم أكن صريحة معك وأواجهك بحقيقة أنّي ما عدت أشعر بأية مسؤولية تجاهك حينها؟ بل وأنّي أتمنّى لو لم أعرفك، أتمنّى من صميم قلبي لو لم أتزوج بك وأنجب طفلك، وألعن كل يوم الساعة التي التقينا فيها؟

أذكر بأنَّ آخر عبارة قلتها قبل خروجك من البيت: "وكأنكِ إنسانة أخرى لا أعرفها!"

عزيزي، أنا أيضًا لم أعد أعرف نفسي تدريجيًا بعد أربعة أشهر من زواجنا.

الذنب ليس ذنبك، حقًا، لا أدري ما الذي حلَّ بي تحديدًا، هل تدهور وضعنا المادّي مؤخرًا هو السبب؟ إذًا لماذا أقسمت لك "زمان" بأنني على استعداد أن أعيش معك في حظيرة دجاج؟

من قال بأنَّ الحب يصنع المعجزات لا يعلم شيئًا عن الحب في أزمنة الحروب، تحت وطأة الضغوط النفسية والخوف من الإفلاس، لا يعلم شيئًا عن إنكار الواقع ورفضه بلا جدوى.

لقد أقنعت نفسي تدريجيًا بأنَّ للحب مدة صلاحية تنتهي بعد الزواج، وبأنَّ حبي لك انتهى. نعم، اقتنعت تمامًا بهذه الفكرة، وحاولت قبولها وتحمّل مسؤولية قراري "الخاطئ" بالزواج؛ ولكني وجدت نفسي أصدك عني، وأجعل منّي عدوك الأول، أتأفف من كل طلب، وأتذمّر من كل تقصير يبدر منك.

دفعتك لتجنب الحديث معي، وإن طلبت منّي أمرًا طلبته بأسلوب هجومي من باب الدفاع عن النفس! وهكذا طلبت منّي كيّ قميصك الأبيض، تحججتُ بتعبي في رعاية طارق الصغير، تذمرتُ من قلة كفاءة المكواة التي لم تعد تعمل كالسابق، وبأنّي لم أعد قادرة على كيِّ الملابس على الأرض، لُمتك لأنك لم تشترِ طاولة للكيّ، طبعًا كالعادة حدثتني عن الأولويات، تحدثتَ عن أزمة المصارف والسيولة، تحدثتَ عن عقلي المغيّب الذي لا يعلم ما الذي يحدث خارج هذا المنزل، سألتك: وهل تعتبر هذا منزلاً؟ ثارت ثائرتك، ولكني تماديت وصرت أسرد عليك كل كبيرة وصغيرة معطّلة أو ناقصة في بيتنا... أستطيع أن أتذكر جيدًا عدد العروق التي برزت في جبهتك وعنقك تلك الساعة، فقد أحصيتها!

يقولون أنَّ الحادث الذي تسبب في دخولك الغيبوبة كنت أنت السبب فيه لا الرجل الآخر الذي مات فورًا، ولكنهم مخطئون، أنا المتسببة بهذا الحادث، أنا الواقفة وراء كواليس هذا الحادث، أنا من قتل ذلك الرجل البريء لا أنت، وقد أكون المتسببة بقتلك أنت أيضًا!

يتناوب عليّ الزوار يوميًا ليطمئنوا على حالك وحالي، وددت لو أخبرتهم بأنّي الجانية، لست الضحية، لست مشروع أرملة بائسة، أنا مشروع قاتلة بائسة.

أذهب لزيارتك يوميًا أنا وطارق، من بعيد أراك للحظات، أسأل عنك الطبيب المناوب، يخبرني بأن لا جديد يحدث معك، أبقَى قليلاً لعلي أسمع صوت شخيرك الذي نهرتك دائمًا عنه، لا أسمع شيئًا، فأعود أدراجي وأتساءل، هل كان شخيرك جزءًا من الأمور التي هوّلتها وأدرجتها تحت بند عيوبك؟

لماذا لم تمت مباشرة؟ أتعمدت تعذيبي بهذا الشكل؟ هل تريد أن تجعل صورتك تحت الأجهزة عالقة في ذهني إلى هذا الحد؟ أم أنك تصارع الموت وترغب في البقاء على قيد الحياة؟ لا لأجلي بالطبع، ربما لأجل الإنسانة التي كنتها قبل خمس سنوات، والتي كان الزواج حكمًا بإعدامها!

منذ دخولك هذه الغيبوبة وأمور غريبة تحدث معي، فقد وجدت نفسي أكوي جميع قمصانك، وأشمّ رائحتك المنبعثة منها عندما يتصاعد البخار الناتج من رش الماء عليها.

وجدت نفسي أطهو كل ما اشتهيتَه مؤخرًا وحرمتك منه.

وجدت نفسي أنظم أوراقك المبعثرة، وأحسبك في القهوة الصباحية التي لم أعد أُبالِي بإعدادها لأجلك.

وجدتني أشاهد برامجك المفضلة التي لطالما تذمرتُ منها.

 لماذا أصر على المراوغة؟ عزيزي، لقد اكتشفت -وقد يكون اكتشافي متأخرًا- بأنّي ما زلت أحبك، وبأنَّ حبك لم يمت فعلاً؛ ولكننا توقفنا عن معايشة تفاصيله، توقفنا عن تبادل كلمات الحب في الرسائل وعلى الهاتف، فقد تزوجنا ولم نعد بحاجة لكل ذلك الشوق المحموم!

لقد تعرض قلبي هو أيضًا إلى غيبوبة، لاصطدامه بالواقع؛ واقع عدم تمكننا من قضاء "شهر العسل" الذي حلمنا به لأنك لا تملك جواز السفر الأزرق! واقع الجري وراء لقمة الأسرة! واقع الجري ليلاً بطفل عمره شهرين ارتفعت حرارته بين مستشفيات ومصحات لا يتوفر فيها طبيب أطفال مناوب، أو لا تتوفر فيها الأجهزة والمعدات اللازمة، أو بكل بساطة لا يرغب عاملوها في العمل! واقع أنك لست رومانسيًا على مدار الساعة كما خُيّل إليّ سابقًا نتيجة قصر نظري وسطحية فكرتي عن الحب والزواج! واقع أن تعود من المصرف خاويَ اليدين بعد تغيبك عن العمل يومًا كاملاً على أمل الحصول على قيمة لا تكفينا لأكثر من أسبوع، تعود صامتًا واجمًا لا تريد أن تتحدث لا معي ولا مع غيري، ولم أقدّر ذلك، فقد كنت أشعر بالاختناق نتيجة هذا الوضع، وكنت أنت الوعاء الذي أصبُّ فيه جام غضبي على هذا البلد وهذه الثورة وهذه الحياة...

اليوم غيرت لك غلاف وسادتك، وها أنا أعطر جانبك من السرير بعطري الذي تحبه، بعد توقفي عن فعل هذا منذ أنجبت طارق، وأصرخ بما أوتيت من قدرة على كبح بكائي:

"إن كان ما تفعله عقابًا فقد تعلمت الدرس، وأعدك؛ لن أكرر فعلتي، أعدك عزيزي بأنّي سأكون كما وعدتك قبل زواجنا، أعدك بأنّي سأكف عن استفزازك، أعدك بأنّي لن أسمح لحبنا أن يدخل في حالة الغيبوبة مجددًا، أعدك..."

ولا أستطيع المواصلة. الدموع أشعر بها كالدبابيس في مقدمة حلقي، أترك لها العنان، وألمح شاشة الهاتف تضيء، أفتح الخط بلا مبالاة لمعرفة المتصل، وينتابني شعور ساذج بأنه أنت.

أسمع صوت شقيقتك الصغرى، صوتها عالٍ جدًا وكأنها تريد أن تتأكد من سماعي لكلماتها، تناديني بصوت مرتعش:

"نادية.. نادية... هيثم حرك رأسه.. تكلم يا نادية... الدكتور قال إنه نادى طارق! تعالي بسرعة، كلنا ذاهبون الآن إليه!"

لم أستطع الرد عليها، فقد كنت متربّعة على الأرض بعد أن خانتني قدماي وقد اعتقدت لوهلة أنها جاءتني بخبر وفاتك عندما نادت اسمي، واختفى صوتي اختناقًا وأنا أهتف: "الحمد لله!"

إذًا؛ فقد باء مشروع "الأرملة" بالفشل! إذًا عدت لأجل طارق؟ فليكن، المهم أنك عدت…

تدقيق: زينب عكرة

تعليقات