ثاءٌ: ثورة


 

*نُشرت على فاصلة، 2018


“ألِفٌ أملُ” .. “ألِفٌ أملُ”.

“بصوت أعلى يا أحبائي، باءٌ بسمة”.

“باااااءٌ بسسسسمة ”.

“أحسنتم! تاءٌ تقوى”.

“تااااءٌ تقوى”.

” وحرف اليوم هو الثاء، هيا رددوا معي: ثاءٌ ثورة”.

قليلٌ منهم، وبخجل رددها، البقية اكتفوا بتبادل النظرات مع من رددها، بعضهم ابتسم واضعًا كفيه على شفتيه محاولا إخفاء تلك الضحكة المكبوتة.

“ما بالكم لِمَ لا ترددون ورائي؟ هل الكلمة صعبة؟ هيا نعيدها، ثاءٌ ثورة”.

لم يرددها أحد، تغيرتْ ردود أفعالهم، اختفتْ الابتسامات، رأيتُ في مآقيهم ظلالا من الشك في معلمتهم، لا يمكن أن يكون السبب هو ما خطر ببالي!.

صفعني أحدهم بعبارة قالها حين هممتُ أن أعيد الحرف على مسامعهم: “هذه كلمة سيئة يا أبلة! لا تشبه الكلمات التي أخذناها سابقًا”.

وكأنه ألجمني بلجام من نار، سألته “لماذا يا عُمَر؟” وفي خاطري ألف سؤال آخر، ماذا تعرف عن الثورة يا عُمر وقد كان عمرك وعمر زملائك في الصف عند حدوثها بين الثانية والثالثة؟ ماذا تعرفون عما قبلها وما الذي تعرفونه عنها؟ لقد اندلعتْ هذه الحرب التي وضعتْنا في إقامة جبرية بهذه المدرسة بعد أن بلغتم من الأعمار ما يتوجب تسجيلكم في المدارس والبدء في تعليمكم كبقية أطفال العالم، ولكنكم لم تعرفوا المدرسة إلا كمأوى لكم ولعائلاتكم يقيكم شر القذائف العشوائية، والمُتعمّدة على حد سواء.

“أبي يا أبلة يسُب الثورة والثوار، ليل نهار” وانفجر الصف ضاحكًا، ضحكتُ أيضًا، وفوجئت بدمعة تهرب من عيني رغم أني لم أتأثر ولم أضحك كثيرًا أيضًا، ربما لسخرية الموقف، “ويقول أبي بأنها السبب وراء دمار بيتنا واضطرارنا للعيش هنا في هذه المدرسة”

فهمتُ ما يحدث، تنفستُ الصعداء، فالأمر إذًا مجرد توريث للأفكار التي تبناها آباؤهم، خشيتُ أن يكونوا على دراية بكل ما حدث بين الثورة والحرب الحالية التي تسببتْ في نزوحنا من بيوتنا؛ مصيبةٌ أن يرسخ ما حدث بينهما في ذاكرتهم، والمصيبة الأكبر أن نصنع لهم بأيدينا ذكريات أسوأ تنطبع في خلايا عقولهم النقية الفارغة.

“أرأيتم يا أحبتي حين بدأنا بتجهيز الصف للدراسة في الأسبوع الماضي، أرأيتم كيف رفض بعض الأهالي تسليمنا بعض المقاعد السليمة لديهم لاستعمالهم لها في الطبخ أو في الأكل أو في نشر ملابسهم؟”

هزوا رؤوسهم، بعضهم خفض رأسه خجلا لأن أهله كانوا من بين هؤلاء.

“أتذكرون كيف تدبرنا أمر المقاعد المكسورة في هذا الصف؟”

“نعم يا أبلة ” .. أسرع آخر بالقول خوفًا من أن يسبقه أحدهم “أصلحناها نحن ومعنا بعض من آبائنا وإخوتنا” .. أضافت هند “وتشاركنا أربعة في مقعد واحد ولم نتشاجر” .. “لقد تشاركنا حتى الدفاتر القديمة يا أبلة” .. “وبعد أول يومين دراسة جاءنا الأهالي الذين رفضوا في البداية بالمقاعد السليمة يا أبلة” ارتسمتْ ابتسامات الفخر والإنجاز على شفاههم جميعًا.

“لقد بدأنا بالموجود، واعتمدنا على أنفسنا، وبمساعدة بعض الطيبين حققنا حلمنا، غيرنا مظهر الصف، ملأناه بالزينة والصور الجميلة التي رسمتموها، وبدأنا في الدراسة أليس كذلك؟”

“نعم يا أبلة”.

“ما فعلناه يسمى ثورة يا أحبتي”.

رأيت علامات التعجب والاستنكار تقفز فوق رؤوسهم، أكاد أقسم بأنني رأيتها!.

“الثورة هي التغيير الذي نبدأ فيه بأنفسنا، فلا نضع اللوم على غيرنا إن لم يتعاون معنا أو يحقق لنا ما نعتبره حقًّا من حقوقنا، أما الثورة التي يتحدث عنها آباؤكم فهي ثورة أخرى، أراد فيها التلاميذ أن يبدؤوا بتغيير من حولهم أولا”.

عشية ذلك اليوم جاءني بعض الأهالي يعتبون علي تعليم الصغار كلمة كهذه، قالوا لي لا تلوثي عقولهم بها، مهلا، من الذي لوث عقولهم بها؟ كنت سأشرح لهم معناها السليم لولا الخلفية السيئة التي منحتموهم إياها قبلي، كنت سأريهم الوجه الآخر للعُملة، وجه القمر الذي لا نراه، ولكني بدل من قول كل هذا اعتذرتُ لهم، مؤكدة أني سأبحث لهم عن كلمة أخرى غدًا، لا أدري كيف تجرأتُ أن أقول لهم بلكنة ساخرة “ما رأيكم في …ثاءٌ ثأرٌ”، تمنيت لو ابتلعتُها قبل أن أتفوه بها، فهؤلاء ليسوا فقط أولياء امور تلاميذي ولكنهم أيضًا جيراننا في الصفوف المجاورة، نطهو سويًّا طعامنا ونعير بعضنا حتى بعض الملابس في كثير من الأحيان!.

انصرفوا دون أن يردوا علي، أحدهم فقط وهو والد عُمَر أجابني “نعم، ربما ثأرٌ أفضل بكثير”.

ليلتها اهتز مبنى المدرسة بسبب قذيفة مجهولة المصدر اختارت صفي تحديدًا، وكأنها أرادت تحطيم نافذة النور الوحيدة في أعماق طفولتهم، أو كأنها أرادت أن تثبت لي صحة وجهة نظر والد تلميذي عُمَر، وأن تخبرني أن “كُفي عن هرائك!”.

وقفتُ أبكي صباحًا أمام رسومات صغاري المدفون بعضها تحت ركام الحائط المهدم، والمقاعد التي أصلحناها بالكاد فصار حالها أسوأ من حالها قبل التصليح، حتى أن المقاعد السليمة أيضًا لم تحتمل ثقل الحائط.

ربتت والدة هند على كتفي، “دفع الله ما كان أعظم، الحمد لله أنها لم تسقط أثناء دراستهم”.

صرختْ هند : ” هيا نبحث عن صف آخر”.

صاح عُمَر: “هناك حجرة طويلة في الدور الأرضي تسللنا إليها مرة، نوافذها لا تطل على الشارع، ربما تكون أفضل”.

رد صديقه محمد: “نعم تذكرتها، تحتاج التنظيف فهي مغبرة جدا ولكنها واسعة جدا يا أبلة”.

ضحكتْ أسماء وهي تقول : “علينا أن نقوم بثورة جديدة يا أبلة هذه المرة”.

ارتبكتُ من قولها في حضور آبائهم، ولكنهم ضحكوا، هزوا رؤوسهم موافقين.

انطلقنا سويًّا لنعاين تلك الحجرة التي كانت على ما يبدو معملا لعلوم الأحياء، فرح الصغار ببعض اللوحات التي احتوت صورا لتكوين الزهرة، وتكوين جسم الإنسان، نزع عُمر إسفنجة كانت على لوحة تمثل الرئتين في جسم الإنسان وبدأ يمسح بها أكبر طاولة، وحين هممنا بإخراج محتويات الحجرة لتنظيفها سمعتُ صوت والد عُمر من خلفي : “استمري يا أبلتنا ”.

التفتُّ إليه مُستفهمة، أشاح بنظره حاملا كرسيين إلى الخارج وقال: “علميهم الجيم، لقد انتهيتِ من الثاء”.

تعليقات