السطر الأخير

 


*نُشرت على فاصلة، 2019


ليتني تمنيت مليون دولارٍ عوضًا عن امتلاك "مفكرة الموت"*

لم أحصل على مفكرة بل على آلة كاتبة قديمة الطراز مرمية في مخزن بيت جدي الذي كان قاضيًا في أيامه، ولعي بالكتابة أغراني لطلب الإذن باقتنائها من خالي، اشترط عليّ ألاَّ أسمح لصغاري بإتلافها، بل ألاَّ أسمح حتى لزوجتي بلمسها، فمهووسة النظافة تلك تُلمّع كل ما تقع عيناها عليه بالكلوروكس، وهي حتمًا ستفسدها، حذرني بأسلوب استشعرتُ فيه مصيبةً ما؛ "لقد تقرر مصير الكثير من الناس بمفاتيح هذه الطابعة، اتركها بغبارها، لا تضع فيها ورقة واحدة ولا تمسحها!"

"ماذا؟! أهي طابعة أم مصباح سحري؟" قلتها ساخرًا؛ ولكنَّ خالي لم يضحك، أسرع بإعطائها لي وكأنه يتخلص من عبءٍ ثقيل.

لم أُبالِ بنصيحته الأخيرة، تكفلتُ بمسحها وتلميعها بمنشفة جافة، وببعض "الكحول" الذي ظننت أنه لن يؤذيها، ثبّتُّ فيها ورقةً بصعوبة. حبر شريط الطباعة كان جافًّا حين جربتُ الطباعة، فتركتها تحفة فنية ربما يحفّزني منظرها على الانتهاء من روايتي الأولى. على الورقة المُصفرّة، وبحبر جاف، جربتُ كتابة البسملة، آه! كم هو رائع صوت مفاتيحها!

أوصيتُ زوجتي وأبنائي وحذرتهم من المساس بها، وانطلقتُ في اليوم التالي باكرًا للوقوف في طابور المصرف ومن ثمّ طابور الوقود، تشاجرتُ مع أحد رجال "أمن" المصرف، وانهلتُ عليه بالدعاء سِرًّا؛ "الله يرفعك"، انتقلتُ بعدها لموظف المصرف الذي لا تنتهي معاملتي معه دائمًا إلا بسيل من التحسبن والدعاء أيضًا؛ "الله يرزينا فيك!"، وبالطبع، انتقلتُ بعد خروجي من المصرف خاليَ الوفاض إلى محطة الوقود، وانتقلتْ معي دعواتي، فكانت من نصيب جارنا الشاب العائد للتو من الجبهة بسيارته المغلفة بالأتربة وبقدمه المجبسة، بعد أن أغلق في وجوهنا المحطة متشاجرًا مع أصحابها، لسبب نجهله نحن الواقفون في الطابور منذ ساعتين، انطلقنا عائدين وعلى لساني؛ "يا ريتها عقمتْ! يرزيها فيك!"

أقسمتْ زوجتي وأقسم أولادي الثلاثة على عدم مساسهم بتحفتي، ذلك لأنّي وجدت فيها ثلاثة أسطر مطبوعة على الورقة، كل سطر فيهِ الاسم الثلاثي لثلاثة رجال، عرفتُ الثاني والثالث؛ موظف المصرف، وفتى محطة البنزين، لم أعرف الأول. لم أفهم كيف تسنّى لأحدهم أن يطبع هذه الأسماء ولماذا؟ ومن أين أتى هذا الحبر الأحمر؟ جربتُ مرة أخرى الطباعة بها دون جدوى، لا أحمر ولا أسود!

عدتُ للمصرف في اليوم التالي في محاولة مني لسحب بعض النقد مع موظف آخر، فوجدتُ نعيًا معلقًا على الباب يخبر بموت موظف أمس! لم آسف عليه ودعوتُ الله بألاَّ يرحمه! إلى جواره كُتِب نعيٌ آخر لأحد رجال الأمن، للمفاجأة؛ كان أول اسم وجدته مطبوعًا على الورقة، أخبرني صديقي بأنه من تشاجرتُ معه؛ هل عليّ إخبارك عزيزي القارئ بأني عند عودتي لحيّنا وجدتُ خيمة عزاء لابن الجيران؟ فتى المحطة! استطعتُ تخمين ذلك، إذ لطالما كنت بارعًا في حل المتسلسلات الحسابية، ولكني لم أعرف لمَ حدث هذا وكيف! هل زارني ملك الموت وقام بطباعة أسمائهم كي يخبرني بموتهم؟ أم أنَّ جنّيّ ما فعل ذلك؟ لماذا أنا بالذات؟ ما علاقتي بهم؟

حين عدتُ لمنزلي، وجدتُ اسمًا مؤنثًا مطبوعًا على الورقة، اقشعرّ جلدي حين تذكرتُ أنه لزميلتي في المكتب المجاور، إذ أن سيارتها كانت تسد مخرج سيارتي في موقف سيارات الشركة، ساعدني أحدهم بتحريك سيارته حتى استطعتُ الخروج بصعوبة من فتحة ضيقة، دعوتُ عليها؛ "صاروخ يرفعك!"، في اليوم التالي أخبروني أن قذيفةً عشوائية سقطت على منزلها، تحديدًا غرفتها وهي نائمة، وأحالتها أشلاءً، رغم بُعد مقر إقامتها عن مناطق النزاع.

كُسِرتْ ذراع طفلي البالغ من العُمر الرابعة، هذا كان مباشرة بعد دعائي عليه "كسرة"، حين حاول المساس بتحفتي، سمعتُها وشاهدتُ بعيني أذرع مفاتيح الحروف وهي تضرب ببطء وثبات على الورقة طابعةً اسم ابني، "تشك.. تشك.. تشك..."، أفزعني الأمر بقدر ما أغراني، فقررتُ التحكم بمصائر الناس، قررت الانتقام لبضعة مرات أخرى، طالت القائمة، وازداد عدد الصفحات، بين مصاب ومريض أو ميت، بعضهم بإرادتي بعضهم لخطإ نطقَ به لساني! ما أشقاني بهؤلاء! ولسبب ما أغاظني جدًا؛ لم تُفلح آلة الموت هذه مع الشخصيات العامة! تبًّا لهم يملكون الواسطة حتى مع الموت**!

يوم قررتُ التوقف، عجزت عن انتزاع الورقة، كان لا بد لها أن تمتلئ بأسماء أخرى حتى أستطيع انتزاعها، ولكن تبقَّى سطرٌ واحد، اسمٌ واحد، شخصٌ واحدٌ فقط عليّ أن أدعو عليه بالمرض أو الموت؛ ولكني ضقتُ ذرعًا بعد أن ساءت حالتي، فقد صرتُ أسوأهم جميعًا! كنت أكثر دناءةً وحقارةً من كل ضحاياي الذين تعمدتهم، أنا هو الذي "ما قدرش عالحمار، قدر عالبردعة!"

بقي السطر الأخير مُعلّقًا، خفتُ على أبنائي وزوجتي من لساني الذي اعتاد الدعاء، خفت على أحبائي والمقربين، وها أنا جالسٌ معتزلًا العالم، في إجازة من عملي ومن الحياة كلها، مبتعدًا عن أبنائي وزوجتي في غرفتي مع آلتي اللعينة.

تتناهى إليّ أصوات أبنائي يتشاجرون بحدة أمام باب غرفتي، يريد لساني لعنهم فأطبق على شفتيّ محاولاً ألاَّ أرتكب جريمة أخرى، أبكي، أمسك بشعري الكثيف على جنبي رأسي، أحاول الصراخ، أكبت جماحي بصعوبة كسدٍ قديم متهالك يعجز عن تحمل سيل الوادي المندفع نحوه.

أسمع صوتي أصرخ؛ "يرزيكم فيااااا!"

تتجمد الدموع في مقلتيّ، ألتفت نحو آلتي فزعًا جاحظًا، أرى مفتاح أول حرف من اسمي يضرب السطر الأخير؛ "تشك..."

 --------------

*"مفكرة الموت" ترجمة لعنوان الأنمي الشهير "Death Note"، الذي يقوم فيه البطل بقتل الناس عن طريق كتابة أسمائهم فيها.

** المقصود هنا الموت قتلا بالآلة لا الموت قدرًا.



تدقيق زينب عكرة

تعليقات