صاحبة خالي

 


*نُشرت على فاصلة، 2019


عدّل وضعية نظارته، انتزعها وقرب عينيه نحو الصورة القديمة بالأبيض والأسود له برفقة مجموعة أطفال آخرين، ثم أعاد ارتداءها، سأل أمي الجالسة إلى جواره تُعدّل ربطة "التسمال" سريعًا وتنحني نحو سفرة "العالة" تعبئ له "طاسة" أخرى، "من هذا يا حوّا ما عرفتاش!؟"

وضعت أمي "البراد" وتناولتْ الصورة من بين أصابعه، أبعدتها عن عينيها مسافة ذراع، ضيقتهما قليلا ثم قهقهت، "ماعرفتاش يا سالم!" قالتها بغمزة أربكتْ خالي، أعادت إليه الصورة وعادت لسفرة "العالة" مجيبة بلا مبالاة: "هذا ولد عم جيراننا اللي ما كنتش تحبه".

لم يبدُ على خالي أنه تعرّف عليه، واصَل بحْلقته في وجه أمي علّه يجد الإجابة في جبهتها ربما.

"اللي كان ديما يغلبك في "الباصة"، نسيته؟ لين بطلت تلعب لما تسمع بيه جي!"

ضحكتْ وهي تمد له "طاسته"، ابتسم خالي مجاملا، ولكنه ظل صامتًا يبحلق، راغبًا في المزيد من المعلومات التي قد تعيد له بعضًا من ذكرى تلك الصورة.

بدا واضحًا على أمي أن بين شفتيها المزيد من العلامات التي قد تجعل خالي يتذكر، ولكنه لم يفعل، ولم تنطق بالمزيد حتى دفعها لذلك "والله ما نتفكّر، ترا زيدي فكريني!".

استندتْ على المسند الواقع بينها وبين خالي، نظرت إليه نظرة جانبية وهي تهمّ بارتشاف أول رشفة من "طاستها"؛

"هذا امحمّد، ولد عم جيراننا حوش الحاج مبروك رحمة الله عليه، اللي حرش فيه واحد من ولاد الحاج وقالك انه ..." تنحنحت أمي وقد علتْ وجنتيها بعض الحمرة ".. قالك انه معجب بيا ويبي يكلمني"، وأضافت بابتسامة سخرية لم أفسّرها إلا بعد رحيل خالي: "هذا اللي بسباه بطلتني من القراية وما خلتنيش نكمل الإعدادية"

"آه... نسيت والله!" 

علتْ وجنتيه أيضًا بعد الحمرة خجلا واستحياءً مني ربما أنا ابنتها المراهقة المتطفلة على ذكرياتهما، أراقبهم بصمت يشي بسلسلة من الحكايات الشهية التي سأعيدها على مسامع أقاربنا، أليس لهذا الغرض تحديدًا اقترحت عليهما إخراج ألبومات صورهما القديمة ومراجعة ذكرياتهم عبرها!

نظر نحوي ثم سألها بلكنة أراد منها تغيير أقوالها حفاظًا على ما تبقى من ماء وجهه: "أنا يا حوا اللي بطلتك من القرايا؟ أنا؟ نسيتي أمك مش كانت تبيك تعاونيها في الحوش بعد ما جابت خونا محمود؟".

واصلتْ أمي ضحكتها التي بدأتها في وقت سابق ولم تنهيها، نفت برأسها وبيديها وأصابعها، نفت بكل جوارحها، ثم أشارت إليه بسبابتيها وهي تقرقر، مستوعبة تمامًا محاولاته تلميع صورته أمام الثرثارة التي هي "أنا"، وكأنما حانت فرصتها لانتقام لم تفكر فيه ولم تخطط له مسبقًا!

"والله ما ني باهيو!"

 قالها خالي بنبرة غاضبة لا تناسب الموقف، فكفّت أمي عن الضحك رغم عجزها عن لجم ابتسامتها العريضة! ودمعتان استفزتهما الضحكة المكبوتة للانفلات من محجري عينيها.

دسّ خالي الصورة في جيبه دون استئذان، "أصلا الصورة هذي شن جابها عندك" ناسيًا أن إرث بيت جدي المتعلق بالأوراق والصور وملابس جدتي وكل متعلقاتها انتقل لبيتنا باعتبار أمي هي الابنة الوحيدة من بين أربع ذكور، مات منهم واحدٌ في حرب "لبنان"، وهاجر الثلاثة الآخرون، وهذا خالي من بينهم، دون أن يطالبوا بشيء من تلك المتعلقات، يكفي حرصهم على اقتسام الإرث المادي حسب الشرع، وحرصهم على زيارة أختهم بين الحين والآخر والاطمئنان على حالها وحال الإيجارات التي يستلمها أبي من عقارات إرث جدتي كل عام.

انتقل لصورة أخرى، تبدو فيها أمي النحيلة بضفيرتيها وفستانها الطويل والفضفاض واقفة إلى جانب فتاة أخرى،  فتاة بشعر مربوط ربطة "حصان"، ممتلئة، ترتدي قميص تدخل نهايته في تنورة تنتهي تحت ركبتيها مباشرة، وفي الخلفية مزرعة نخيل ربما كانت لجدي.

كرر خالي نفس الموقف "وهاذي من؟"

اتكأت أمي بذقنها على كف يمناها ناظرة نحو خالي وأضافت بعد هنيهة بصوت حاولت أن يكون حياديًّا قدر ما استطاعت: "هذي يا وخيي بنت جارنا الحاج مبروك نفسه، اللي كانت تقرا معاي في الفصل، معقولة نسيتها!"

زاد من تقريب الصورة، تنحنح ثم أضاف بلكنة مرتبكة "لكن في الصورة تبانوا كبار! مش قلتلك من لما بطلتي مدرسة معاش تكلميها البنت اهيا مش مزبوطة!؟"

"والله هذا اللي صار، البنت كانت تجيني لما انت وخوتك مهناش، شن تبيني نلزّها؟!"

قالتها أمي وبانت ابتسامة أخرى، تنحنح خالي، وضع "طاسته" قبل الانتهاء منها، نهض واضعًا الصور على جنب، وكأنه تذكر أمرًا مستعجلا كان قد نسيه، سلّم علينا واعتذر بتذكره لموعد مهم، نظر في ساعته دون أن ينظر إليها حقًّا، ثم استأذن وخرج سريعًا!

تنهدتْ ثم قالت محدّثة نفسها قبل أن تحدثني: "هذي اللي في الصورة كانت صاحبته ويبوا بعض، كان قريب يكلب عليها، غير جاها نصيبها بكري واتسقّدت"

ثم تذكرتني، وضعت سبابتها أمام شفتيها، "ماتعاوديش الدوة اللي سمعتيها فاهمة؟"؛ لكن أنَّى للرصاصة إن انطلقت أن تعود؟


تدقيق: أبوبكر المغربي

تعليقات