منظومة القهر الوطني


*نُشرتْ على فاصلة 31 أكتوبر 2021


 كُلُّ الدلائل كانت تشير إلى أنَّ مصدر الانفجار هو رأسها لا غير، حرفيًّا.


حسنًا، لم يكن الأمر إذًا مجرّدَ شائعة، والمرحومة كانت تَعني ما تقولُ حينَ سمعها الجيران مِرارًا تصرخ في صغارها: "راسي بيتفجّر!".


جلس زوجها مطأطئًا، متفاجئًا، ساهمًا على شفير الهذيان، قبالة رجل التحرّيات، يرافقه الطبيب الشرعيّ الذي لم تقابله من قبل جثةٌ بهذا الشكل، الرأس مُهشّم بالكامل، وكأنّ أحدهم حشاه بالديناميت.


- ما اسم المرحومة الرباعي؟


ردَّ بعد هنيهةٍ من التردُّدِ والحيرة والتفكير:

- صعب نقولّك يا أفندي.


نشق بأنفه ثُمَّ واصل أمام استفهام المتحرّي:

- في جواز السفر، اسمها سلمى عمران عبد الحميد الفاخري، في شهادة ميلادها الإلكترونية هي: سليمى عمّار عبد المجيد الفخاري، في شهادات ميلاد صغارنا الإلكترونيّة هي سلوى عامر عبد القدير فخران...

- أنتَ وامّاليها شن تقولولها؟

- نعرفها "سالمة عمر عبد الفتّاح الفايدي"، هكّي مكتوب في عقد الزواج.

- شن هالسلاطة؟!

- القصّة يا أفندي بدت من لمّا عرفنا حاجة اسمها منظومة الرقم الوطني، كانوا غالطين في لقبها بس عدّلناه بعد جولة ومعاناة بين الدوائر والمكاتب، وبعد ما استهلكنا ورق يستهلكه طالب في عام دراسي كامل، لكن لمّا تعدل اسمها في شهادة الميلاد، كان فات وقت تصحيحه في منظومة الجوازات، اللي اكتشفنا بقدرة قادر أنَّ حتّى اسمها واسم بوها وجدّها فيه مكتوب غلط…


ووقتها حتّى الصغار كانوا خشّوا مدارس، ولمّا قرّرنا ننتقلوا من بلديّة لبلديّة ونطلّعوا الصحايف الإلكترونية لصغارنا اكتشفنا أنّهم وَلُّوا اخترعوا اسمها، وأنّها متسجّلة في المركز الوطني باسم جديد… ولمّا مشينا نعدّلوا اسمها في وثائق الصغار، وّلُّوا وغيّروا اسمها في منظومة السِّجِل المدني.


الحق، ركبني الشك حتّى أنا؛ بديت نضبّحلها "يا مرا، يا أم محمد..."، والصغار يعرفوها ماما بس، إلّا بوها وأمّها الله يرحمهم كانوا ينادوا عليها سالمة زي ما مكتوب في عقد زواجنا، وأظن أنّ هذا هو اسمها الحقيقي.


كُل مرّة نمشوا نردموا حُفرة ونعدّلوا اسمها في تركينة نلقوا حُفرة جديدة وغلط جديد في تركينة ثانية، وفي كل مرّة لمّا نكتشفوا غلطة جديدة تبدا المرحومة تسِبّ وتلعن، وتشد في راسها وتقول: "راسي بيتفجّر!".


تبّي الحق، الحاجات الإلكترونيّة هذي تبّي ناسها، همّا قتلوها! همّا اللي يدخّلوا في بيانات منظومة الرقم الوطني، همّا ما فيش غيرهم.


- تو مش شغلك هذا، ما زال موضوعها مش واضح، وأنتَ المُتّهم الأوّل يا... ذكّرني باسمك؟

- تبّيه زي ما مكتوب في شهادة الميلاد ولّا البطاقة ولّا في مستندات الصغار ولّا في الجواز ولّا في...

- بس... خلاص شن هذا؟! طلّعلي بطاقتك.

_______


باتَ الزوجُ تلكَ الليلةَ تحت ذِمّة التحقيق، لم تنتهِ عمليّة التحقيق نظرًا إلى حدوث الانفجار الثاني، الذي أشارت كلُّ الدلائل لاحقًا بأنَّ مصدره هو رأسه لا غير، تمامًا كزوجته... وبقيتْ القضيّة مفتوحة، مستفزّة، غامضة، تعجيزيّة، عويصةً على الفهم.


سُجّلتْ المرحومةُ وزوجها في شهادتَيْ الوفاةِ باسمَيْهما المكتوبَيْن في عقد الزواج، باعتبار أنَّ العقدَ كُتب بخطِّ اليد وفي حضور وكِيلَيْهِما والشهود! وهما اسماهُما الصحيحان اللذان حُرما منهما في جميع الوثائق الرسميّة خلال حياتَيْهما، ولم يصعُب على صغارهما حين كبروا أن يزوروا قبرَيْهما.


غيرَ أنَّ لعنةَ الأسماءِ المُتعدّدة، والقهرَ البيروقراطي، وضياعَ الأوراق، والطوافَ بين الدوائر الإداريّة، كلّها باتت إرثًا عائليًّا، ينتقل من جيل إلى جيل، ضاعت الأسماءُ الأولى، وتعدّدَت الهُويّات، وتكاثر القهر من النوع الوطنيِّ الممتاز، بحيث بات من الممكن تصديرُه إلى كلِّ دول العالم، ويزيد…


وفي ركن ما، في مكتبٍ ما، كان هناك طفلٌ متعجرف، تعلّم لتوّهِ الحروف الأبجديّة، والأرقام من 1 إلى 100، لا يُميّز بعدُ بين التاء والثاء، أو بين الدال والذال، أو بين الجيم وأخواتها… يجلسُ على كرسيٍّ مكتبيٍّ مُريح، وُضعت فوقه وسادتان ليرتفعَ مستوى الجالس أمام مكتبٍ بشاشة كمبيوتر مسطّحة حديثة، ولوحة مفاتيح أكبر من راحتَيْ يديه، يضرب عليها بأصابعه محاولًا إدخالَ بيانات أحدِ المواطنين البؤساء، كبؤس سالمة وزوجها وذُرّيتهما.


سيكبرُ هذا الطفلُ المتعجرف يومًا ما، ويتحوّل إلى رجُل بأذنين طويلتين من الدرجة الرفيعة، بشكل سيسمح له أن يمسكَ بيديه تقرير مصير عددٍ أكبرَ من البؤساء، وسيأتي مكانه طفلٌ متعجرف آخر، ليجلس على منظومة القهر الوطني، مسجِّلًا بذلك بطولاتٍ في تفجير الرقم القياسي من رؤوس المواطنين والمواطنات.


- كتابة | كوثر الجهمي

- تدقيق | آية أبو سعيدة

تعليقات

إرسال تعليق