الآن، وبعد تحرير عنقي من الحفرة، وخروجي "سالمةً" على ما أعتقد، ربما يمكنني الكتابة عن بضعة أمور ما فتئت تستفزني طيلة فترة مواكبتي للحدث الذي هزَّ قلوب مئات الآلاف، إن لم نقل الملايين من الناس: سقوط الطفل المغربيّ ريّان في البئر.
لِمَ ريّان تحديدًا؟ أين قلوبكم من أطفال سوريا واليمن؟ والأدهى من ذلك الذي يتساءل من داخل ليبيا: أين قلوبكم ودعواتكم من أطفالكم يا ليبيين، الذين لم يكن أبناء الشرشاري أولهم، ويبدو أنه ليس لهم آخِر!؟
لا ينبغي للمرء أن يبرر تعاطفه، ولا أن ينجرّ وراء ابتزازات عاطفيّة من هذا النوع، فلنفكّر في الأسباب بموضوعيّة تامّة بعيدًا عن العاطفة، إن استطعنا لذلك سبيلًا، وقبل ذلك عليّ أن ألتفت التفاتة صغيرة حانقة مع ضغطة قويّة على أسناني لأولئك الذين يصفون التعاطف مع ريّان بالنّفاق، عودوا إلى المعاجم قبل أن تتفوّهوا بحماقاتكم!
ولنبدأ إذًا:
>> المواكبة.
لعلّ أبرز ما حصد المزيد من التعاطف تجاه هذا الطفل المسكين هو المواكبة والتغطية المستمرّة من قبل بسطاء الناس، الجيران والأهل من سُكّان منطقة "شفشاون"، والنداءات التي وجّهوها لبلادهم منذ يوم الثلاثاء، وما عقب ذلك من تفاعل المجتمع المدني في المغرب، وانطلاقه من هناك إلى بقيّة العالم العربي، ما أجبر وكالات الأنباء واضطرها للمواكبة، لا العكس...
بات -كما نلاحظ جميعًا- لصغار الإعلاميين (عبر منصات التواصل الاجتماعي) منبر، وصاروا هم من يتحكمون دون قصد منهم -أو ربما بقصد- فيما تنشره وسائل الإعلام الكبرى، الإقليمية والعالمية، بصناعة ما بتنا نعرفه بـ"الترند"، وأعتقد أنَّ هذا تحديدًا ما أجبر المغرب على "تحريك الجبل لأجل طفله"، إذ في المغرب آلاف الأطفال والأُسر التي تعاني الفقر والظلم والتهميش، ما يدفع آلاف منهم للـ"حرق"، شأنها شان كلّ الدول في المنطقة المأزومة (منطقتنا)، وليس ثمّة بالملاحظة أيّ نهضة شاملة ترتقي بهذا البلد الجميل إلى المكان الذي يستحقه حقًّا، وشكرًا للفساد…
أعني هنا أنَّ الطفل المغربي شأنه شأن أيِّ طفل في المنطقة، ولو كان عزيزًا على بلده لتوفرت في قريته أبسط أسباب الحياة الكريمة التي لا تجبرهم على حفر بئر ارتوازي يكتشفون لاحقًا أنها بئر معطّلة!
>> الأمل!
على عكس معظم مآسي المنطقة والعالم، فنحن لم نسمع بريان بعد موته، بل سمعنا به حين بدأت عمليات الإنقاذ، وركبنا جميعًا قطارًا يسابق الزمن، شأننا شأن الحفارين وفرق الطوارئ هناك، غير أننا لم نملك إلَّا الدعاء، وفي الوقت الذي تقف فيه منظمات الإغاثة ساترًا بيننا وبين أطفال الخيم السوريين والفلسطينيين واليمنيين -وهلمَّ جرّا-، وخيبات الأمل من تقصيرها من آن لآخر واستغلالها لمحنتهم، وفي الوقت نفسه الذي تُشعرنا هذه المنظمات بالسلام الداخلي والطمأنينة بسبب التبرع بدولارين أو ثلاث، أو بالدعاء ثم متابعة التصفح، في هذا الوقت لم يكن بيننا وبين ريّان إلَّا شاشة! شاشة فقط، تخبرنا أنَّ عليه الصبر ساعة أخرى، فساعة، فثلاث، فأربع، وبتنا نلهث وراء الزمن ونسابقه في آنٍ واحد، لأنَّ ثمّة أمل قريب في إنقاذه، أمل ما فتئ يتمدد، حتى انكمش على ريان وعلينا فجأة.
>> كينونة الشر.
معظم "ترندات" الأطفال تأتي نتيجة شرّ في الطبيعة البشريّة، إما القصف كما حدث في غزة (وقد تابعنا ما حدث وآلمنا تمامًا كما حدث مع ريّان)، أو الموت جوعًا كما حدث في اليمن والصومال، أو الموت بردًا (وما زلتُ أعاني وجعًا سبق وجع ريّان من خيم الموت البيضاء المثلجة) بسبب الحرب والنزوح، أو حتى من الخطف (وما زالت هنا في القلب فجوة كبيرة خلّفتها وحشية قتل أطفال الشرشاري وغيرهم)...
إذًا، معظم ما ذُكر -وبعضه ما زال يحدث- أتانا بسبب شرّ في أنفسنا، في أولادنا أو في أعدائنا على حدٍّ سواء؛ في البشر، وقد بتنا لا نرجوا أو ننتظر خيرًا من الطبيعة البشرية لمن يحارب أو يخطف، ولكن، حين يكون خوفنا من الطبيعة، فهو يأتي في صورة مضببة، خفيّة، مترددة، لا ندري أنخشاها أم نركن إلى رحمتها المستمدة من رحمة الخالق؟ فقررنا بتضامن غير مُعلن أن نركن للرحمة، وننتظرها.
>> درجات التعاطف الإنساني.
يبدو بديهيًّا لكلّ إنسانٍ باقٍ على فطرته الطبيعية، أنَّ التعاطف مع الإنسان والحيوان، مع المظلوم والفقير واليتيم، أمرٌ لا مفرّ منه، ولكننا ندرك كذلك أنَّ للتعاطف مدارج، ولتأثيره نسب متفاوتة في نفوسنا، وهذه حقيقة لا مفرّ من إنكارها، وهذا يتوقف على عوامل أخرى، أهمّها مدى معرفتنا بظروف وشخصيّة المُتعاطَف معه…
ليس من بيننا من لا يحزن لحزن أمّ في "آلاسكا"، إن وُضعتْ في موقف مشابه، ولعلّ من بعض صور هذا التعاطف الدموع والتأثر وحالة الكآبة التي تأتي من فلم، نعلم تمامًا أنه غالبًا ما يكون قصة متخيلة، ولكننا في نفس الوقت ندرك أنَّ الخيال أهون من كثير من الواقع، فننجرّ وراء حرارة الدموع، والأمر يبدو أشدّ، حين يكون الفقد من أسرتك، ثمّ من أقاربك، فجيرانك، فأهل بلدك، فأهل البلد المجاور لك، لذا ليس من المستغرب أن يكون أكثر المتعاطفين في حكاية ريّان هم من العرب وأمازيغ الدول المغاربية، والمسلمين.
إذًا، ليس ثمّة ما يثبت انعدام تعاطفنا مع غير ريّان، خاصّة أطفالنا المخطوفين والمفقودين، وأطفال سوريا واليمن وفلسطين والعراق… أيّها المستفزون!
ليس ثمّة صلة بين ما حدث والنفاق يا أعداء اللغة والمعنى!
ليس ثمّة أي تضحية ضحّاها ريّان ليجمع قلوب العرب! فلو خُيّر أهله بين الاحتفاظ بريّان وجمع العرب على قلب واحد لاختاروا ريّان بالطبع! (أتقرأ قولي هذا يا مذيع تلك القناة؟).
ليس ثمّة ربح حلال يا من كذبتم ونشرتم الشائعات لحصد المزيد من الإعجاب والتفاعل! ونجحتم في ذلك.
ثمّة فقط أسباب اجتمعتْ، وقلوب انفطرتْ، وما زال أمامها المزيد لتنصهر انصهارًا لا علاقة له بالاحتباس الحراريّ، بل بالاحتباس القهريّ والاجتماعيّ والفكريّ، فهذا العالم قاسٍ جدًّا، ونحن نُصرّ على جعله أكثر قسوة علينا وعلى أطفالنا.
لم أتعافَ بعد من مشاهد ريَّان التي نازع فيها الموت، ولهذا سأتوجّه برسالة لكل أب: حين تحفر بئرًا، ثمّ تكتشف أنه بلا فائدة، فلا تتردد بردمه عزيزي. أربع سنوات ترك فيها أبو ريّان بئره لسبب ما دون ردم، ولا أدري إن كان سيجد ما يردم به الحفرة العميقة المهددة بانهيار ما حولها الآن إلى جوار منزله، أو أن من حفر سيتكفل (بعد رحيل الكاميرات) بالردم، بات من الخطورة على الأسرة الإقامة إلى جوار ذلك الجرف، لو كلّف نفسه عناء ردم البئر، فقط لو فعل...
مصدر الصورة>> RT
كتابة>> كوثر الجهمي.
تدقيق>> زينب عكرة.
تعليقات
إرسال تعليق