ليش جينا ليبيين؟

 

*نُشِر على فاصلة

قد يتبادر إلى ذهن كثيرين من مواطني الدّول المنكوبة بالحروب والفقر والكوارث السياسية والاقتصادية والاجتماعية السؤال الوجوديّ: لِمَ وُلِدتُ هنا؟ لِمَ لَمْ أولد مواطنًا في دولة مُرفّهة تحترم مواطنيها (على الأقل الصالحين منهم)؟ لِمَ كُتِبَ عليّ أن "أجري دون أن أدري" في وطن ليس ثمة أمرّ من هجرانه إلا محبّته؟

لطالما تساءلت، وأعرف أن غيري كثيرين فعلوا: علاش جيت ليبي/ ليبية؟ ما الحكمة في الموضوع؟

نحن لا نختار أوطاننا، تمامًا كما لا نختار آباءنا أو أمهاتنا أو إخوتنا، ولا نعي تمامًا ما حُرِمنا منه إلّا حين نراه عند الآخر، ذلك الآخر الذي تفصلنا عنه بحور نشقّها حرقًا، أو محيطات نقطعها طيرانًا بتأشيرة تعليم أو إيفاد وهميّة، ليستْ إلا فخًّا لطلب لجوء إنساني، دون أدنى شعور بالذنب. نحن نشعر بأن الشّمال مدينٌ لنا بالحياة، بالنظر إلى تاريخه الاستعماريّ الذي كان سببًا من بين أسباب عِدّة صبغتْنا بلعنة التيه، أو الحُلم بالتيه بعيدًا عن حضن الوطن... وللمفارقة، نحن نشعر بالخجل أحيانا إزاء لهفتنا في الغربة، نسخر من المغتربين المتذمرين، ونهتف لهم في كل مرّة يعزم فيها أحدهم على العودة ضجرًا أو إفلاسًا أو قهرًا: "ردّ بالك تروّح؛ مهما كانت ظروفك لن تكون أسوا مما ستعيشه هنا".

>> لسنا وحدنا ولكننا الأكثر ابتلاءً
غير أننا لا نُدرك ما منحتْنا إياه نكبات أوطاننا إلا حين تجمعنا الظروف القاسية مع بعض أولئك المُنعّمين من الشمال، فنكتشف أن ما ظننّاه خللًا جينيًّا فينا ليس إلا طبعًا إنسانيًّا شاملًا، تكشفه الظروف والمحن، كالأوبئة او الفوضى الأمنية، وانهيار معاني وشعارات التعاطف الإنساني أمام لفافات المناديل أو الحفاظات أو حتّى أمام تخفيضات جمعة سوداء نوداء، والسرقات والشغب إثر مظاهرات حاشدة غاضبة... نرى ما يجري ونفهم أن سوء معيشتنا لم يأتِ إلا حصيلة اجتماع أسباب لا حصر لها، أسباب توفرت في دول الشمال وحُرمنا منها. ولم أعُد أُصدّق الأخبار الشائعة والمتداولة عن رقيّ شعب ما وحضارته ما لم يكن تعرض لمحنة وصمد في وجهها أخلاقيًّا قبل أي اعتبار آخر.

>> عطايا الحرمان
نحن نُدرك أن سوء المنظومة الصحيّة التي اعتدناها علّمتنا الاعتناء بأنفسنا أكثر، وعدم الاعتماد على طبيب أو ممرض، وما زالت وصفات الجدّة تحتلّ صدارة العلاجات والأدوية، خاصّة لمن لا يملك منا ثمن الدواء أو السفر للعلاج.

نحن متقبلون تمامًا لفكرة أن البشر خطاؤون، تعوّدنا ألا نطالب بحقوقنا أو أن نتسامح مع ما جرى كأقوى ردّ فعل، لا بل كردّ فعل وحيد، وتعوّدنا على ألا نُفكّر فيما كان يجب أن يكون، بل فيما يمكننا فعله بأنفسنا، ونرمي بكلّ ما جرى فوق كتفيْ القدر، والمكتوب، فنمتثل للشفاء ذاتيًّا وبسرعة أكبر.

نحن نُدرك أيضًا أن فساد المنظومة التعليمية وهشاشتها وعشوائيتها، منحتْنا القدرة الكافية على الدراسة (والعمل أيضًا معلمين) تحت الضغط العصبي والنفسي.

علّمتنا حالات الطوارئ والحروب الأهلية معنى الحجر المنزلي دون مرض، ومنحتْنا القدرة على تقبل الجلوس "بين أربع حيطان" وجوهنا في وجوه بعضنا! لا عمل، لا دراسة، وغالبًا لا كهرباء، وأحيانا لا ماء أيضًا… بتنا نعرف كيف يمكننا احتواء بعضنا وأنفسنا.

علّمتنا الحروب أيضًا حتميّة الطوابير، طابور الخبز، طابور الوقود، طابور البنوك، طابور المياه، رغم أن النتيجة غالبًا تكون "خُفّي حُنيْن"! وهذا تحديدًا ما هيأنا لمواجهة فيروس عالمي بهدوء أعصاب، وبرود مبالغ به أحيانًا...

صحيح ألّا قيمة للوقت عندنا، ولكن هذا أيضًا علّمنا التّكيّف أمام الخطط المتغيّرة، والطموحات الملغيّة، والأحلام المنسية. وصحيح أن حياة الإنسان عندنا قد تكون ثمنًا لرغيف خبز، ولكن هذا تحديدًا ما جعلنا نمتنُّ لجمال اللحظات الصغيرة، ونعيشها بعُمق.

نعيش -باختصار- حالة استسلام لاتجاه التيار، استسلام من النوع الذي يدفعك لتحيا على أي حال، وهذا لا يشبه الاستسلام الذي يدفعك للانهيار او الانتحار.

>> لم يعُد مهمًّا
ساعدتْني هذه الأفكار في تخطّي السؤال الوجودي: لِمَ وُلِدتُ ونشأتُ في دولة منكوبة؟ اجتاحتني كطوق نجاة إلى حين، عندما شاهدتُ وثائقيًّا يتحدث عن المهاجرين العرب في لندن، حديثي الهجرة منهم تحديدًا، الفلسطيني واللبناني والعراقي، الذين عاصروا نكبات أوطانهم وخرجوا منها بسبب يأسهم. المُلهم في الوثائقي ما أجمعت عليه شخصياته: تجاربنا في أوطاننا هيأتْنا لمواجهة الجائحة، بل حتى لمساعدة غيرنا في تخطيها!

أعطانا الحرمان ما قد يفتقده مواطن شماليّ عادي (أقول العاديّ): الصبر، المرونة، التشبث بالجمال والفكاهة حتى وسط الخراب، والأهم من كل ذلك، فهمٌ أعمق للحياة والموت. هل كان ينبغي علينا تذوّق الحرمان كي نتعلّم كل ذلك؟

ربما نعم، وربما لا. سيبقى الشك بقاء رغبتنا الشديدة في المُضيّ قُدُمًا حتى النهاية... ولم يعُد مهمًّا ان أعرف ما الحكمة من كوني ليبية.

- كتابة | كوثر الجهمي
- تدقيق | آية أبو سعيدة

تعليقات